بزنس كلاس – ميادة أبو خالد
لفترة طويلة، بقيت ظاهرة المولات الشاهد الحي على التطور، ودليلاً مساهماً في السباق الحضاري الذي شهدته العقود الماضية، ففكرة المول لم تكن تتوقف على فعل التسوق، بل شملت مجموعة من الظواهر الاقتصادية دفعة واحدة، تبدأ من فكرة البناء ذاتها وتصل إلى جوهر العمل السياحي، وبالتالي تتكامل مهمة المول لتجمع الخدمي إلى السياحي إلى الاقتصادي وتساهم بشكل فاعل في حركة نمو المجتمعات..
غير أن كثرة عدد المولات واضطرادها، قد يبدو أحياناً مناقضاً للهدف، بل ومدمراً للفعل الاقتصادي المنشود ولا سيما حينما ينقلب إلى كم فائض عن الحاجة، وهذا الفائض عن الحاجة لا يضرب نفسه فقط بل يؤثر بشكل عميق على الفكرة الرئيسية فيضرب المولات الأخرى من حيث لا يدري وقد يدمر الأساس الاقتصادي الذي نشأت الفكرة من خلاله..
الاستنساخ تشويه للأصل
وإذ تنطبق هذه الحال على كثير من دول العالم المتحضر، فإنها تنطبق أيضاً على مولات الدوحة التي بدأت تقع في فخ التكرار والمشابهة والتقليد والاستسهال والمجانية، فتكاثر المولات على هذا النسق الكمي بلا حاجة فعلية أو جدوى اقتصادية بات يهدد مناخ الاستثمار ويدفع بالملل والرفض إلى الواجهة، فالنسخ المتكررة تؤذي الأصل بدلاً من أن تضيف إليه، ولا سيما حينما تفتقد الجديد، حينما تفتقد الابتكار وتنحصر في فكرة النموذج الجاهز..
نسخ للمكان، نسخ للبضائع، نسخ لطرق التسوق، وربما استنساخ يقتل الروح ويقدم أجساداً بلا معنى وبلا إضافة، فضلاً عن أنها تجعل من حداثة الفكرة موضة قديمة تنفر الباحثين عن الجديد وتبعدهم تلقائياً.
إن نظرة معمقة إلى واقع المولات ومستقبلها المنظور، في ضوء الاستمرار في بنائها واعتمادها كصيغة وحيدة للتسوق، تكشف عن نتيجة واحدة، وهي ما يمكن تلخيصه بـ”الفائض”، وهو هنا فائض مجاني، فكيف بنا إذا استمر الحال على هذا الإيقاع المتسارع من النسخ واللصق؟
لقد بات التجديد في طرق التسوق مطلباً هاماً وحساساً، ولا سيما التفكير في آليات الجذب والتشويق غير التقليدية، فالنماذج المستهلكة يحرقها السوق باستمرار، ويلفظها الزبون.
مفاعيل عكسية
ورغم أهمية مراكز التسوق في الفكر الاقتصادي، إلا أنها تنقلب إلى نقيضها، وتلعب دوراً معكوساً في حركة الاقتصاد إذا ما اعتمدت صيغة التكرار، وهو ما نراه بوضوح في الفكر الذي يقود ظاهرة المولات ويحدد مواقع أقدامها، وذلك ما يدفع بنا إلى مواجهة هذا الواقع ونقده وتفنيده بناء على الدراسة الواقعية الميدانية، وعلى معطيات المستقبل ومتطلباته والتي تجمع على أن تزايد أعداد المولات بهذا الشكل الذي تشهده الدوحة، ما هو إلا استنزاف للفكر الاقتصادي بل وأذى كبير يلحقه هذا النوع من التوجه التجاري بصميم حركة السوق..
من واشنطن إلى الدوحة
في كثير من الدول المتطورة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت الدعوات تتتابع لإحياء الجذور الأولى لفكرة المولات، أي العودة إلى الشارع، وبدأ توصيف المولات بالمراكز الميتة، فيما تتمتع متاجر الشارع بالحميمية والتنوع، ولا يسيطر عليها إيقاع جامد، وربما تكون الدوحة اليوم، وفي ظل التطور الكبير الذي تشهده في كافة مناحي الاقتصاد، أحوج إلى هذا النوع من الحميمية والاختلاف، لكي تستعيد حالة التدفق، والجذب التي بدأت تفتقدها بفعل التكرار الفارغ من المعنى، بفعل الأجساد الخاوية من الروح، وهو ما بدأ المستهلك يبحث عنه بعد أن استهلكته الرؤى الجامدة والنماذج المكررة التي خلقت حالة حقيقية من الغربة بينه وبين الأمكنة الصماء..
شهادات موثقة
خلصت إحدى المقالات التي نشرتها صحيفة أمريكية إلى أن الشباب الأمريكي لم تعد تجذبهم مراكز التسوق رمز الاستهلاك منذ الستينيات.
وكتبت الصحيفة:
“المراكز التجارية تمر في أزمة” و”المركز التجاري الأميركي بات من الأنواع المهددة”، جاء ذلك في تعليقها على حالة التدهور النسبي لمواقع التسوق الضخمة هذه، لكن مفهوم المركز التجاري الضخم التقليدي المؤلف من عدة أروقة متقاطعة ومن طابقين مع ماركات كبيرة تحت سقف واحد، بدأ يتدهور.
وبينت دراسة أجرتها مجموعة “كوستار غروب” المتخصصة ونشرت نتائجها في صحيفة “نيويورك تايمز” أن 80% من المراكز التجارية المسقوفة البالغ عددها 1200 يسجل أداء مقبولا، لكن وضع 20% منها بات اليوم على المحك، في مقابل 6% سنة 2006.
وقد تعزى هذه الحال بجزء منها إلى ازدهار التجارة الإلكترونية، حتى لو لم تشكل هذه الأخيرة إلا 6,6% من المبيعات بالتجزئة في العام 2014، بالإضافة إلى تداعي المباني وتكاثر المراكز، بحسب الخبراء.
مزاج المستهلك العصري
كما أن المستهلك بات اليوم يفضل المتاجر الصغيرة المنتشرة في الشوارع. وأكد ديفيد دوشتر وهو خبير عقاري متخصص في المشاريع التجارية أن “متاجر التجزئة تعود اليوم إلى الشوارع حيث جذورها”.
وتعد المراكز التجارية المحاطة بمواقف شاسعة التي حلت محل الأسواق والأحياء التجارية رمزا إلى الحلم الأميركي وميول الأميركيين إلى الاستهلاك منذ الستينيات بأرضياتها اللماعة ونوافيرها ونبتاتها الخضراء ومتاجرها ومطاعمها.
وصرح ديفيد رولفس أن “الرغبة في الالتحاق بركب الحياة العصرية كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات وباتت هذه المراكز تفضل على متاجر وسط المدينة والتجمعات التجارية في الهواء الطلق بفضل طابعها العصري”.
وأضاف العالم “لكن المركز التجاري سرعان ما أصبح موقعا للاستهلاك”، ما عدا للمراهقين الذين لا يزالون يتسكعون فيه.
فهل ستشهد الدوحة تغييراً استراتيجياً في طريقة تعاملها مع فكرة المولات، أم أنها ستمضي قدماً في إنتاج هذا النوع المتكرر من المولات تماماً كما ينتج البيض في المداجن لتكون هذه المولات بدورها نوعاً من التكاثر بالإباضة؟؟