الأمن الغذائي القطري ورهانات المستقبل

معركة طويلة الأمد واستراتيجية بعيدة المدى

الصحراء القطرية تربة خصبة بالأفكار ومصدر بديل للغذاء

الحلول الإسعافية تبقى مؤقتة والاعتماد على الذات خيار وحيد

أراضي الغير للغير وما حك جلدك مثل ظفرك

لسان حال القطريين يقول: لكم تربتكم الزراعية ولنا صحراؤنا القابلة للتخضير

مخاضات عسيرة يتحملها الشعب القطري لولادة جنين مكتمل النمو

بزنس كلاس – سليم حسن

لفتت تداعيات الأزمة الخليجية لا سيما في أول أيامها الانتباه إلى هشاشة الأمن الغذائي في دولة قطر وبدأت كثير من التحليلات تتحدث عن اعتماد الدوحة بنحو 90% من المواد الغذائية على الاستيراد من الخارج، الأمر الذي يشكل تهديداً استراتيجياً دائماً لأي بلد في العالم. لكن قطر تملك مبررات منطقية لعدم قدرتها على توفير الطعام لأكثر من مليوني إنسان يقطنون فيها حسب آخر الإحصاءات لسبب بديهي بسيط يتجلى بأنها أرض صحراوية مترامية الأطراف مع مناطق قليلة جداً بغطاء أخضر وصالحة لأن تكون أراضي زراعية خصبة.

الصحراء والغذاء

ورغم أنها واحدة من أغنى دول العالم على الإطلاق بمصادر الطاقة، لا تملك قطر ما يكفي من الماء العذب للزراعة وأيضاً لسكانها الذين يتزايد عددهم باضطراد مع زيادة الولادات وقدوم أعداد أكبر من الأجانب ليقيموا ويعملوا فيها.، وبالتالي فإن ثروة الدوحة المادية الضخمة بكل المقاييس قد لا تكون كافية لكي تحقق قطر هدفها الأكثر طموحاً من تنظيم مونديال 2022، ألا وهو أن تصبح بلداً قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الأساسية.

طبعا الحكومات القطرية المتعاقبة منذ الاستقلال فكرت وعملت على الخروج من هذا المأزق، إلا أن أكثر الخطط طموحاً وواقعية في هذا السياق لم تتبلور حتى وقت قريب من الماضي، تحديداً في 2012. لكن حتى هذه المحاولة الأخيرة ورغم جديتها وطموحها الكبير كما سنرى لاحقاً، يبقى السؤال الأهم حول مدى واقعية أي خطة لإعادة تشكيل البيئة في منطقة صحراوية بكل المقاييس كدولة قطر، وما هي البدائل العملية إذا فشلت قطر بالوصول إلى هذا الهدف الطموح فعلاً.

لا شيء مستحيل

لتحقيق هذا التوازن توجب على العطية بناء رؤية لا يمكن أن نطلق عليها سوى إعادة تشكيل لبيئة قطر مادياً واجتماعياً ايضاً. لكن الحكومة القطرية وضعت كل ثقلها خلف هذا المشروع الطموح للغاية، فقد دعمت الخطة بـ 25 مليار دولار أمريكي منذ ذلك العام لكن وكما هي حال المشاريع الاستراتيجية علينا أن ننتظر أكثر لنرى نتائج فعلية على الأرض وهو الأمر الذي لم نشعر به حتى الآن في قطر رغم البدايات المشجعة. المشروع يتضمن إقامة محطات تحلية مياه ورفد المناطق الزراعية بمياه عذبة بشكل دائم مع اعتماد أساليب ري حديثة جداً توفير في الماء وتمنح عملية السقي أكبر قدر من الفاعلية. وإقامة مشاريع داعمة للقطاع الزراعي أو مرتبطة به كمزارع الأبقار والأغنام وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحليب ومنتجاته بعد تأمين كميات العلف الكافية للحيوانات من الإنتاج القطري المحلي نفسه والاستفادة بنفس الوقت من الأسمدة العضوية الناتجة عن تلك المزارع لتحسين ومضاعفة الإنتاج الزراعي في عملية تفاعلية تطمح قطر أن تبلغها في السنوات القادمة.

أدوار متبادلة

ورغم أن التوسع بالقطاعات الزراعية المختلفة لا يسير بخط واحد، إلا أنها في نهاية المطاف ستكون مكملة لبعضها البعض في عملية الإنتاج ضمن الرؤية الأشمل للموضع. فمثلاً ورغم أن الإنتاج القطري الزراعي لا زال محصوراً في التمور وبعض أنواع الخضراوات، لكن الحصار سارع بتفعيل خطة شركة “بلدنا” للإنتاج الحيواني التي بدأت منذ أول أيام الحصار باستيراد 4000 بقرة ضمن خطة استراتيجية لاستيراد 25 ألف بقرة في نهاية المطاف وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحليب ومشتقاته في قطر على المدى المتوسط والبعيد. إنتاج هذه الشركة  مثلاً من السماد الطبيعي سوف يتعاظم مع بلوغ عدد الأبقار الرقم النهائي المطلوب وعندما يكتمل هذا الأمر سوف تستغني قطر عن جزء مهم من السماد المستورد مقابل ما تنتجه تلك الشركة وبالتالي ينتقل الحال إلى حركة داخلية للإنتاج بدل الاستيراد.

من أجل تحقيق التوازن الغذائي لابد لقطر من إقامة بيئة زراعية مستدامة تحقق نسبا جيدة من الإنتاج للمواد الغذائية وبالتالي تقدم المادة الأولية للمعامل المخصصة لصناعة المواد الغذائية. لكن قبل كل ذلك على قطر أن تحول الجزء الأعظم من أراضيها إلى أراض صالحة للزراعة. وللقيام بذلك يجب توفير مصدر ثابت للمياه العذبة وتطبيق أساليب ري حديثة فيما بعد توفر المياه بأكبر قد ممكن.

فاتورة ضخمة

الأخبار السيئة تقول بأن قطر قد استنفذت ما يقارب 85% من مياه الآبار الموجودة على أراضيها وتعتمد بشكل كبير على مياه الشرب الناتجة عن محطات التحلية التي تبلغ تكاليف إنتاج الماء العذب منها مبالغ طائلة. لذلك من المنطقي ألا تدفع المزيد من المال على إنتاج ماء عذب لكي تسقي منه أراضي زراعية فتصبح تكلفة إنتاج طن من القمح مثلاً بتكلفة شراء خمسة أو ستة طن من أفضل أنواع القمح المستورد في العالم.

لكن هذا الفرق ورغم أنه كبير وغير منطقي على المدى المنظور، إلا أنه ثمن يجب على قطر أن تدفعه الآن، وهي قادرة بسهولة على ذلك،  لتجني في المستقبل ربما البعيد قليلاً نتائج مستدامة من التنمية الزراعية وبالتالي تهيئة بيئة مختلفة تماماً قادرة على إنتاج ظروف ملائمة لقيام زراعة تحقق حاجة قطر المستقبلية من الغذاء وهذا بحد ذاته أكبر ربح بالمفهوم التجاري حتى، يمكن لدولة أن تحققه.

بدائل مؤقتة

أحد الحلول البديلة التي لجأت لها قطر كما سواها من دول الخليج، تجلى باستئجار أراض زراعية خصبة في دول أخرى لتأمين حاجاتها الغذائية. فقد استثمرت قطر مئات ملايين الدولارات في إراض زراعية خصبة في السودان وكينيا والبرازيل والأرجنتين وأوكرانيا وأستراليا عبر الشركة العملاقة حصاد. ورغم النتائج الرائعة لهذه الخطة، إلا أن هذا الحل ليس دائما ولن يكون خياراً استراتيجياً لأنه ببساطة عرضة للإلغاء في أي لحظة، كما انه يعني بأن الدول المستثمرة ستبقى دوماً حبيسة قرارات الدولة المضيفة رغم أنها تدفع إيجار الأرض ولا تقيم مجتمع زراعي مؤلف من مواطنيها بل من عمال البلد المضيف وبالتالي تبقى دوما اليد العليا في هذا الأمر للدولة المضيفة ولا يبقى للدولة المستثمرة سوى الموافقة على أي شروط تطرحها الدولة المضيفة حتى لو كانت هناك عقود ضامنة.

لذلك فإن على الدوحة فكرت جدياً بالخيار الأصعب واتخذت قرارها بالمضي به وإطلاق مشروع إقامة أراضي زراعية على ترابها الوطني وتربتها شبه الصحراوية معتبرة الأمر منذ 2012 واحداً من أهم واصعب التحديات التي على قطر مواجهتها حسب تعبير حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد، عندما كان حينها ولياً للعهد.

نحو نظام متكامل

إن مشروع قطر للأمن الغذائي ورغم أنه خطة طموحة ويمكن أن يتحول في 2024 إلى نظام متكامل يحول أرض قطر تدريجياً من صحراء شبه قاحلة إلى اراض زراعية يغطيها غطاء نباتي واشجار مثمرة ومحاصيل زراعية لمواد أساسية، إلا أن لمنظمة “الفاو” منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة رأيا مختلفا، ربما يكون واقعيا لكنه متشائم أكثر من اللازم، بالتجربة القطرية الرائدة. فقد علق عبدالرضا عباسين، وهو من كبار المحللين الاقتصاديين في الفاو بأن “القطريين لا يملكون ما يكفي من الأرض التي يمكن أن تكون منتجة”، وهذا صحيح إلا أن مشروع استصلاح الأراضي وتوفير المياه العذبة سوف يقلب المعادلة رأساً على عقب رغم إن معظم الأرض صحراء ورغم حقيقة قلة سكان قطر. وأضاف بأن “القطريين يستوردون تقريباً كل ما يحتاجونه من قمح بنحو 200 طن بالعام وهو رقم لا يستطيعون إنتاجه فعلياً”. وأضاف “لا استطيع توقع نجاح هذا المشروع في قطر”، موضحاً أن الدوحة لديها بديل أفضل من خلال الاستثمار الزراعي في أراض خصبة بدول أخرى وعندها يمكن للنتائج أن تكون مختلفة. وقال لماذا يستثمر القطريون كل هذا المال والجهد في مشروع وطني مكلف للغاية كهذا فيما بإمكانهم وبسعر أقل بكثير استئجار أفضل أرض في العالم ليزرعوا فيها؟!!

مبالغات واقعية

الحقيقة بأن الفاو تنظر عبر خبيرها بواقعية لحالة موجودة أمامها وهي تقيمها من منطلق الأرقام والمعطيات وفق حسابات منطقية، لكن حياة الشعوب لم تكن يوماً فقط نتيجة حسابات منطقية، بل من خلال إرادة أهلها وإلى ماذا يطمحون أن يكونوا. فإذا أردنا في قطر أن نحقق الأمن الغذائي علينا بكل وضوح أن نعرف بأن هذه الأمر مكلف مادياً واجتماعياً وعلينا أن نقدم الكثير وأن نجتهد أكثر وأن نتعب أكثر حتى نصل إلى اليوم الذي لا نحتاج فيه لاستيراد أي مادة غذائية أساسية من خارج الحدود. وحتى نصل إلى هذا الأمر علينا أن نعمل بجد وضمن خطط واضحة ومحددة زمنياً لزيادة مساحة الأرض الصالحة للزراعة من نحو 12 ألف كم2 والتي تشكل ما مقداره 1% فقط من أراضينا، إلى مساحة أكبر من ذلك بعشرات المرات خلال الفترة من اليوم حتى 2024. ولتحقيق ذلك علينا تحقيق اكتفاء ذاتي من كميات المياه العذبة اللازمة لهذا الأمر وهي بحدود 5 ملايين متر مكعب من الماء وذلك من خلال محطات تحلية المياه العاملة على الطاقة الشمسية واليت، رغم تكلفة إقامتها المرتفعة، إلا أنها ستكون مثالية لتلوث بيئي اقل وإنتاجية أعلى بشكل مستدام. فكيف سيكون الحال لو تمت إقامة هذه المحطات على امتداد الساحل القطري وبتراتبية متداخلة. أي إقامة المحطة الأولى على الساحل مباشرة تليها محطة بعمق كيلو متر واحد داخل اليابسة متصلة معها وهكذا دواليك للوصول إلى عمق الصحراء.

ومع كل ما سبق يمكن لقطر، وكما بدأت فعلاً منذ فترة، الاعتماد على إنتاج عدد كبير المنتجات الزراعية عبر تقنية الزراعة دون تربة والتي تحتاج إلى نصف كمية الري المعهودة وتحقق إنتاجية مضاعفة قياساً بالمزروعات العادية.

سباق مع الزمن

إن السباق مع الزمن للوصول إلى تحقيق الأمن الغذائي أمر حيوي للغاية من أجل مستقبل قطر وشعبها. وهذا الأمر رحلة مستمرة تحتاج إلى تخطيط حصيف ودقيق وهذا ما تم بشكل جيد في 2012. الآن على قطر أن تتابع في خطواتها الجريئة نحو تحقيق طموح شبه مستحيل بتحويل الصحراء إلى أرض خضراء وهي قادرة على ذلك بواقعية وليس مجرد كلام لرفع المعنويات، فالبلد الذي تمكن من النجاح باستقطاب العالم عبر “الجزيرة” ونجح كأول دولة في الشرق الأوسط بالحصول على حق استضافة أكبر حدث كروي بالعالم، والبلد الذي انتقل خلال عقدين من الزمن فقط من دولة لا يعرفها أحد إلى محطة أساسية على الخارطة السياسية للعالم لن يكون صعباً عليه تحقيق إنجاز لم يسبقه له أحد.. تحويل الصحراء إلى أرض خضراء وخلق بيئة جديدة تكون وطناً يفتخر القطريون به كما فعلوا دوماً.

 

السابق
مذكرة تفاهم بين بنك قطر للتنمية وكهرماء لدعم الشركات القطرية
التالي
مترو الدوحة.. مركبة قطر إلى المستقبل