البروفسور لوغرو الذي أجرى العملية لعاصي الرحباني بعدما أُصيب بنزيفٍ حادّ في الجهة اليسرى من دماغه عام 1972، فوجِئ بعد نجاح العملية بأنّ دماغ عاصي الرحباني كان أكبرَ من أدمغة 55 مريضاً أجرى لهم عملياتٍ مماثلة في سائر أنحاء العالم… بعد أشهر قليلة عزَف عاصي على البزق لحْنَ أغنية «ليالي الشمال الحزينة».من النادر أن ينجو إنسان بعد تعرّضه لهذه الحالة وأن يبقى دماغُه سليماً مئة في المئة. “المعلِّم” بعد تماثله السريع والمفاجِئ للشفاء، ترك لنا بين عامَي 1973 و1984 بالإضافة إلى الروائع السابقة، مسرحيات “المحطة”، “قصيدة حب”، “لولو”، “ميس الريم”، “بترا”، “المؤامرة مستمرة” و”الربيع السابع”.
31 عاماً مرّت على غياب مَن صنع هويّةً جامعة لأبناء الوطن لبنان، مَن صنع وجمّل لشعبٍ فولوكلوراً خالداً. مَن بيده ودماغه وقلبه حضن نهاد حداد لتكون لنا فيروز.
هويّة وطن
في 21 حزيران، يوم عيد الأب، رحل أب الموسيقى اللبنانية وأب المسرح الغنائي اللبناني… رحل أب زياد الرحباني، ورحل الذي كان أبّاً لإخوته ومن بينهم منصور والياس الرحباني. ورحل زوج نهاد حداد وأب فيروز. في مثل هذا اليوم من العام 1986 فقدنا دماغَ المسرح. بعده، فقدنا قُرانا وضيَعنا، فقدنا خلطة مسرحه الخاصة، الجمال والأخلاق والبساطة والعمق والطمأنينة وفيروز.
القول بأنّ الأخوين عاصي ومنصور الرحباني صنعا لبنان بهويته وتراثه الموحَّدين، ليس شعراً أو مديحاً أو نظريات. فبشكلٍ مُخطّط ومدروس، حين كانت هناك إرادة رسمية لإبراز هوية فنّية وثقافية ووطنية جامعة للبنانيين بعد نحو 10 سنوات على نيل لبنان استقلاله، أطلق رئيس الجمهورية كميل شمعون مهرجانات بعلبك التي رسم طريقها الوطني الأخوان رحباني عام 1957، لتكون “الليالي اللبنانية” الأولى على أدراج معبد باخوس، بينما كانت القلعة مفتوحةً للفِرَق العالمية فقط.
الخلطة الثلاثية: عاصي ومنصور وفيروز قدّمت بدورها خلطةً فنّية منبعُها دماغ عاصي الرحباني. خلطة هوية لوطن ضائع، وطن ما زال ضائعاً لغاية يومنا هذا، ولا يُمكن إيجاده إلّا في صوت فيروز، ولا يمكن اللجوء إلى حضنه ودفئه وشجره وقرميده وسطيحاته… إلّا في مسرحيات الأخوين رحباني.
في مسرح الأخوين لا يمكن للملك أن يحكم العشب والحيطان، في وطن الأخوين يتّحد اللبنانيون مهما اختلفت طوائفهم ومناطقهم ولهجاتهم ليردّوا المحتلّ عن أرضهم. في لبنان الأخوين “الدم ما بيقلب مَيّ”.
في مملكتهما تضحّي الملكة بحياة ابنتها من أجل كرامة الوطن. في ساحاتهما بنت غريبة بـ”تحلّ المشكِل”… في جبالهما وضيَعهما نتعاطف مع “المهرّب” و”الكاذب المهضوم” وحتى مع الوالي المستبدّ. هل سمعتم فيروز تغنّي للوالي كي ينام؟!
صقَل عاصي الرحباني صوت فيروز وأداءها، وحمّل الأخوان صوتها نقاء فجر الضيَع وحزن بحرٍ هادئ وغربة الطيور وبراءة الزهر… وراء عظيمتنا بأحاديّة صوتها وندرته وخلوده، وراءها طفلان يلعبان في الوعر كمشا بيديهما وقلبيهما وعقليهما كلّ ما عَزف ودَندن من شعرٍ والدُهما “القبضاي” حنا الرحباني، وما بين مقهى “فوّار انطلياس” والمنيبيع في ضهور الشوير تمسّكا بكلّ ما أفرغ الوالدُ من أخلاق ومبادئ وقيَم.
الطفلان اللذان دخلا إلى الكنيسة وتعلّما من تراثها وترانيمها ومن ثمّ قدّما لنا أجمل ما ومَن رنّم للمسيح وللإله وللجمال. الأخوان اللذان في آخر سنوات المراهقة شعَرا بالمسؤولية تجاه العائلة بعد وفاة والدهما، توظّفا شرطيَّين وبقي قلباهما يخفقان شعراً ونغَماً.
“عاصي كأنّه الأب، طريقة حديثه معي واهتمامه… والدنا توفّي حين كان عمري 6 سنوات، عاصي قام بتربيتي، فكان يكبرني بـ14 عاماً”، يقول الموسيقار الياس الرحباني لـ”الجمهورية”. ويخبر عن عاصي: “كان في حال انشغال دائم… دخل الحياة باكراً، وكان يذهب في الموسيقى… بالكاد يأتي لتناول الغذاء… كان يهوى الصيد. وفي الحياة الواقعية كنا نقضي الوقت في الضحك”.
عطاءٌ متواصل
لم يترك عاصي ومنصور الرحباني الفنّ ولا الفنّ تركهما… طرقا أبوابَ الإذاعة اللبنانية، ورغم الصعوبات صنعا هويّة فنّية لهما وبالتالي هويّة فنّية لبنانية.
في بداية العام 1951 التقى عاصي وفيروز، أعظم لقاءٍ في تاريخ لبنان. في 23 كانون الثاني 1955 تزوّج عاصي وفيروز. من عاصي وفيروز وُلِد لنا عبقريٌّ اسمُه زياد. ومنهما وُلِدت مسرحيات وأفلام وآلاف الأغنيات. ومعهما، ومن وعلى مسرح الأخوين ظهر وخرج وأبدع أهمّ الفنانين اللبنانيين.
هادئ، صافي الذهن، متّقد الذكاء والمعرفة، هكذا يبدو عاصي الرحباني خلال المقابلات الإعلامية القليلة التي أجراها. ورغم حضوره القوي، يبدو وكأنه غائب وشارد الروح، ساكن في المدى.
يعبّر عاصي عن نفسه ويقول “لا أستطيع أن أعيش دقيقةً واحدة بلا تلحين وعطاء”. أمّا الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي كان من المقرَّبين من الأخوين، فيقول: “عاصي الرحباني لا يتكرّر، إنه فنانٌ فريد بنوعه. عندما أكون في بيروت وأزور عاصي وأكون معه في عدة جلسات، يكون عاصي غائباً عنا، لأنه يلحّن وهو يقود سيارته، يلحّن وهو يمشي، يلحّن وهو يأكل، يلحّن وهو يتحدّث… هذا رجلٌ لم يكن يتوقّف أبداً عن التفكير والتلحين والكتابة والإبداع”.
كان الفنُّ عالمَه، العالمُ الذي ملأه بعطاءٍ متواصل وإبداع مستمرّ لا تقطعه حتى لحظات استراحة. الشاعر هنري زغيب، مؤلّف كتاب “في رحاب الأخوين”، يُخبر في حديث لـ”الجمهورية” أنّ “منصور قال لي إنّ عاصي كتب “جبال الصوان” وحده أولاً في ثلاثة أيام فقط، والنص المكتوب بخطّ عاصي وبالحبر الأخضر لا يزال موجوداً اليوم مع غدي الرحباني”.
الدكتاتور الصارم
القسوة والدكتاتورية صِفتان يتمّ تناقلهما عن عاصي الرحباني، وفي إحدى المقابلات تقول فيروز: “عاصي كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً وليس سهل الرضا ابداً… يحدّد مواصفات معيّنة للكورال وللفنانين… ولم يكن يسمح بالارتجال أو بالإضافات… على المسرح كلّ الحركات كانت خاضعة له لتكون الصُوَر كما هي في باله… كلّ شاردة وواردة يجب أن يكون راضياً عنها…”
الشاعر هنري زغيب يقول: “هذا الأمر صحيح بمقدار ما كان عاصي مثالياً ويريد العمل أن يكون مثالياً. كان قاسياً من أجل أن يكون العمل تاماً. صحيح أنّ بعض المسرحيات كانت تُوقّع بإخراج صبري الشريف أو بيرج فازليان أو غيرهما، ولكن بالفعل كان عاصي يتدخّل باللباس، بالأداء، بأحذية الممثلين، بشعرهم، بلفظهم…”.
الممثل أنطوان كرباج، الذي شكلّ مع فيروز ثنائيات حوارية “علَّمت” في تاريخ الحوارات المسرحيّة اللبنانية، يُخبر في حديثٍ لـ”الجمهورية”: “عاصي كان يسهر علينا ويدرّبنا ويضعنا على الطريق الصحيح. كنا نتدرّب على المسرحية يومياً لمدة شهرَين أو ثلاثة. وكان يوجّهني بالتأكيد. ممنوع الخطأ في أيّ شيء. كان يريد أن يكون العمل كاملاً متكاملاً، وكان يختار الفنانين بدقة”.
ويؤكّد كرباج أنّ “قسوة عاصي كانت مُقتصرة على العمل، لإنجاحه، وهو كإنسان كان “نكتجي”. وكان يحب أن يتساجل معنا بالزجل، كنا نقضي معاً سهراتٍ جميلة”.
بهالبساطة
كتب وحلّل كُثرٌ ظاهرة الأخوين رحباني وفيروز. فبعد عاصي ومنصور خسر المسرح من نفسه، وشلح الكثير من أثوابه. عاصي ومنصور لم يرحلا منفردَين، أخذا معهما الصدى، أخذا الانتظار الذي لا يملّ والتصفيق الذي لا يتعب، أخذا رغبة ذاك الذي لا يكلّ من العودة…
ببساطة وتواضع وعمقٍ ووضوح، يحلّل عاصي نفسه، يقدّمها كما هي بحقيقتها، تماماً كما قدّم كافة أعماله: “كنت قول زجل ومولع بالشعر… بيوم من الايام أحببنا الفنّ وصرنا نتعلّم… وصرنا نقول بإخلاص… ما فكّرنا إنو بدنا نصير مهمّين… كنا بدنا نعبّر عن نفسنا ببساطة… نحسّ إشيا ونحسّ بدنا نقولها وصرنا نقولها”.
المسرح الغنائي كان عندما كانا، ورحل عندما رحلا. بقي مسرح بعدهما، صحيح، ولكن أيّ مسرح؟ الجواب عند مَن يحفظ المسرحيات بحواراتها وأغنياتها وحركات ممثليها رغم أنه سمعها فقط ولم يشاهدها.
والجواب عند فيروز: “كانوا الناس لما يحضروا المسرحية يضهروا حافظين أكتر الأغاني ويكونوا عم بغنوها… الناس اليوم بتروح عالمسرح وبتتفرّج وبتضهر ما معها شي، لا كلمة ولا نغمة… ما معن زوّادة للإيام اللي جايي”.