هجمات ارتدادية تُفسد هدف التسلل الخليجي ونيران صديقة تلتهم مراعي السعودية
قطر تُفشل حرب “السيولة” التي يشنها رباعي الحصار وترد الكرة لملعب المحاصرين
حركة الودائع في البنوك القطرية شاهد إثبات على فشل مراهنات السعودية والإمارات
بزنس كلاس – إسلام السيد
منذ اندلاع الأزمة الخليجية في الخامس من شهر يوينو / حزيران الماضي، كان واضحاً بأن دول رباعي الحصار التي تقودها العربية السعودية تريد إخضاع قطر بأي شكل لإملاءاتها السياسية والاقتصادية. وعلى الفور بدأت حملة حصار شرسة منذ ذلك التاريخ استهدفت كل أشكال التعامل مع الدوحة لا سيما الاقتصادية منها باستثناء قطاع الطاقة لأن الضرر الفوري كان سيقع على رأس المحاصرين أولاً إذا توقف سيل الغاز القطري عن التدفق في محطات الطاقة الإماراتية.
وبرز بين أشكال الحصار المختلفة استهداف القطاع المالي في قطر الذي وضع تحت أكبر الضغوط الممكنة من قبل المحاصرين في محاولة لخنق اقتصاد قطر. وكلنا يذكر تلك الأيام عندما بدأت الإمارات والسعودية تهددان بسحب تمويلاتهما من البنوك القطرية ومدى تأثير ذلك على القطاع المصرفي والاقتصاد القطري برمته.
حقائق دامغة
لكن لغة الأرقام تقول بأنه من الصحيح أن السيولة التي سحبت من السوق القطرية بلغت نحو 6 مليارات دولار خلال أول شهور الحصار، إلا أنها لم تؤثر بأي حال على الوضع المالي لقطر رغم مراجعة تصنيفها من قبل عدد من المؤسسات الدولية المختصة وحتى تخفيض هذا التصنيف من مستقر إلى سلبي في بعضها كما حدث مع وكالة موديز مؤخراً.
وكان الحدث الأبرز في الآونة الأخيرة إعلان الرياض وأبوظبي نيتهما سحب ودائعهما من البنوك القطرية. حيث قالت وكالة «بلومبيرغ» إن بعض البنوك الخليجية ترفض تمديد ودائعها قصيرة الأجل في بنوك قطرية بعد انتهاء مدة استحقاقها، بحسب مصادر فضلت عدم الإفصاح عن اسمها. وأضافت أنه “من المتوقع أن تسجل ودائع البنوك القطرية بالعملات الأجنبية انخفاضاً أكثر حال تمت هذه الخطوة الخليجية، ما يهدد القطاع المصرفي”، حسب المصادر نفسها.
محاولات عاجزة
لكن وكما هو معروف للجميع فإن الودائع الأجنبية لدى البنوك القطرية لا تشكل سوى 22% من إجمالي الودائع وخرج منها سلفاً نحو 7.5% في يونيو الماضي وهي بمعظمها الأموال الخاصة بالسعودية والإمارات بشكل رئيسي ليبقى نحو 15% فقط أي ما مقداره 47 مليار دولار، وهي نسبة قليلة بكل المقاييس للتأثير على الاقتصاد القطري. إن ما يمكن أن يخرج من القطاع المصرفي القطري من ودائع بعد ذلك لن يستطيع أن يؤثر على قطاع يمتلك أصولا جاهزة للتسييل بسهولة بنحو 150 مليار دولار عدا ما يمكن توفيره من باقي ممتلكات جهاز قطر للاستثمار التي تقدر بنحو350 مليار دولار دون أن يؤثر ذلك على جودة أصول البنوك القطرية التي تتمتع بثقة وسمعة مالية ممتازة في المنطقة والعالم.
أما بالنسبة لما يمكن للقطاع المصرفي القطري أن يفعله في هذا الإطار عدا عن امتصاص صدمة انسحاب ودائع بنوك دول الحصار، فقد بدأ فيه فعلاً وعلى أكثر من جبهة.فقد دفعت الأزمة بنوكاً قطرية، مثل «بنك قطر الوطني»، و«بنك قطر التجاري»، و«بنك الدوحة»، إلى إعادة النظر في خياراتها مثل القروض والتمويل المباشر وسندات الدولار والأهم الاسواق المستهدفة والمستثمرين المحتملين.
نيران غير صديقة
فعلى سبيل المثال بادر بنك الدوحة، خامس أكبر بنوك قطر وواحد من أهم الأهداف في مرمى نيران الحصار الرباعي، لطرح بعض أصوله في الإمارات التي يملك فيها فرعين في دبي وأبوظبي. حيث قالت مصادر مصرفية في 4 أغسطس / آب الحالي إن وحدة تابعة للبنك تسعى لبيع بعض أصولها في الإمارات العربية المتحدة إلى بنوك محلية، في أول خطوة كبيرة يتخذها مصرف قطري لتقليص انكشافه على السوق الإماراتية، مؤكدة أن فريق تمويل الشركات ببنك الدوحة يعمل على تقليص حجم محفظة القروض الإماراتية. ومن جانب آخر قالت مصادر اخرى بأن بنك الدوحة يعمل كذلك على بيع أصول له في استثمارات أمريكية في نفس الإطار.
خارج التبعية المالية
كل ما سبق يشي بأن بنك الدوحة يسعى بجهد كبير لتجنب الوقوع في مصيدة خسائر فادحة وأيضاً للبحث عن خيارات أفضل، في إطار خطة وطنية كبيرة، تلغي مرة واحدة وإلى الأبد تبعية أو حتى الارتباط بمؤسسات مالية خليجية تعمل في سياق فرض هيمنة دولها على من يتعامل معها، كما يحدث الآن في الحالة البحرينية. حيث يبدو عنق البحرين تحت سيف السطوة السعودية الإماراتية المالية في إعادة إنتاج لسيناريو “شراء” ديون دبي وسيادتها بالمعية من قبل أبوظبي إثر أزمة 2008 المالية سيئة الصيت.
النقطة الأساسية هنا، أنه وحتى تكون قطر بكل مؤسساتها المالية خارج لعبة “المحمدين” القذرة هذه، اختارت الذهاب إلى المجال الأكثر رحابة على المدى الطويل ولو أن الأمر سيكلفها بعض الخسائر في المدى المنظور. فقد رجحت وكالة بلومبيرج الاقتصادية في تقرير لها أن يبقى بعض المستثمرين الآسيويين في السوق القطرية بعد خروج كل ودائع دول الحصار، بالنظر إلى الفوائد الكبيرة التي سيجنونها من رحيل المنافسة السعودية والإماراتية. لكن تلك ليست كل الحكاية، فمع المستثمرين الذين سيفضلون البقاء في قطر، سيأتي مستثمرون آخرون لأنهم يرون في خروج الدوحة من عباءة الرياض فرصة ذهبية للاقتناص وذلك لتحقيق الفوائد الجمة التي كانت تجنيها الرياض من علاقتها المفيدة جداً لها مع الدوحة، كما يرون في الأمر إزاحة جديدة للرياض وابوظبي عن الهيمنة على المشهد الاقتصادي الخليجي بكل مفاصله.
فرص استثمارية وشراكات
لقد عبر مسؤولون تنفيذيون كبار في شركات ومؤسسات مالية أسترالية عن اهتماهم الشديد باستكشاف فرص الأعمال والاستثمار في قطر في حدث نظمه بنك الدوحة في الرابع من أغسطس / آب الحالي في سيدني بأستراليا تحت عنوان “قطر – أداء مستدام”. وحضر الندوة عدد كبير من مصرفيي أستراليا ورجال أعمالها والذين أبدوا اهتماماً كبيراً باستكشاف فرص استثمارية بالشراكة مع بنك الدوحة.
عادة ما يكون القطاع المالي والمصارف العنوان الأبرز لتشكيل وجهة نظر عن أي اقتصاد سواء لجهة قوته أو ديمومة نموه. وفي الاقتصاد القطري تلعب البنوك هذا الدور بحيوية وديناميكية كبيرة. فقد تمكنت بنوك قطر خلال فترة بسيطة من التحرك بديناميكية نشيطة نحو التحول إلى أسواق خارج إطار دول الحصار. ويمكن في هذا الإطار لبنوك قطر أن تتعمق في التوجه شرقاً نحو الاستثمار والبحث عن فرص تؤمن ربحية مستدامة على المدى البعيد عبر شراكات مع مستثمري الاقتصاديات الصاعدة التي تملك توعاً كبيرا في اقتصاداتها كالهند وباكستان والصين واستراليا وحتى البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا. هذا التنوع في الشراكات سوف يكون له أثر كبير على فتح أسواق مهمة أمام قطر والأهم عدم الوقوع فريسة خيارات محدودة تفرض على الدولة التزامات سياسية وتقديم تنازلات سيادية هي بغنى عنها الآن ومستقبلاً خصوصاً إذا ما أدركنا أن أكثر من حجم التجارة العالمية يدور في فلك الدول المذكورة بعيداً عن القوى الاقتصادية المهيمنة تقليدياً والتي للدوحة علاقات ممتازة معها منذ عقود كثيرة. وهنا أيضاً يمكن العمل على توطيد وتوسيع شراكات البنوك القطرية مع نظيراتها في بريطانيا تحديداً التي تبحث اليوم بشكل يأس عن شركاء أقوياء اقتصادياً كالدوحة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
انتكاسة المراعي
وكما حدث أول أيام الأزمة عندما تفاخرت الرياض بأن أهل قطر لن يتمكنوا من الصمود دون لبن “المراعي” ليرد عليهم القطريون فعلاً وليس قولاً “خلو المراعي تنفعكم” لتنشغل المراعي منذ ذلك الحين بحساب خسائرها لخروجها من السوق القطرية، هذا هو الحال تقريباً في الأزمة المصرفية القطرية “الآنية” ومخارج الحلول المقترحة لها. فعلى المدى الطويل الخاسر الوحيد سيكون من سحب ودائعه من بنوك ناجحة تمثل واحدا من أفضل اقتصاديات العالم كفاءة وقدرة. ورغم حقيقة أن الأمر سيكون أشبه بـ “فطام صعب” أو ربما “ولادة صعبة” لكنها تبشر ببداية جديدة بخطى ثابتة نحو تحقيق مزيد من النجاح على مستوى العالم وهو أمر اعتادت الدوحة عليه منذ زمن ولن تتنازل عنه بسهولة مهما بلغت المصاعب واشتدت العاصفة.