عواصم – وكالات:
لماذا تخسر دول الحصار كل يوم المعركة التي شنتها ضد قطر في كافة المجالات سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، بمقاييس الجغرافيا السياسية وعدد السكان، يبدو مقارنة دولة قطر بالدول المقاطعة لها «السعودية – الإمارات – البحرين – مصر» ضربًا من المزاح؛ فالدول الأربعة مجتمعة قد تبلغ مساحاتها آلاف أضعاف مساحة الإمارة الصغيرة، لكن وبالرغم من ذلك، وبعد مرور نحو 100 يوم، لا يظهر أن المقاطعة التي فرضها الرباعي قادرة على إخضاع الدوحة لشروطهم.
ولا يعود ذلك فقط لقدرة قطر على إدارة الصراع بطريقة هادئة وفعالة، بل بسبب أخطاء كبرى وقعت فيها كتلة المقاطعة في إدارة الصراع وتدبير المعركة، وفيما يلي نستعرض بعض ما كان ينبغي على دول المقاطعة فعله – أو بالأحرى ما كان ينبغي عليها تجنبه – إذا ما أرادت لحملتها تلك نتائج مُرضية.
1- لا تفرغ جعبتك من السهام دفعة واحدة
أولى النصائح التي يمكن أن يتلقّاها المرء لعملية تفاوض ناجحة، هو ألا يلقي بجميع أوراقه على الطاولة دفعة واحدة، البداية بسقف منخفض، ثم التهديد بالتصعيد، ثم اتخاذ خطوات تصعيدية تدريجيًا، فهذا من جهة يجعلك قادرًا على التراجع أو المناورة حال اقتضت الضرورة، كما أنه يجعل من خصمك طرفًا تحت الضغط لأطول فترة ممكنة، وتتلاعب بأعصابه بحيث تجعله في حالة ترقب مستمر، وفي تخوف دائم من أفعالك اللاحقة.
بتطبيق ذلك المبدأ على حالة الأزمة الخليجية، سنجد أن دول المقاطعة قد بدأت بـسقف مرتفع للغاية، فقد قطِعت العلاقات الدبلوماسية بالكامل، بل وطُرد القطريون من تلك الدول، وأُمر مواطنوها بالعودة، وفرضت كل من السعودية والإمارات والبحرين «عزلة» على قطر من البر والبحر والجو، وانتهت حركة التجارة بين الجانبين بما فيها توريد السلع الغذائية إلى قطر عبر الحدود مع السعودية، بحيث أنه يُمكن القول إنه – وباستثناء الخيار العسكري الذي لاح في الأفق، قبل أن يصير مستبعدًا بسبب التدخل التركي السريع، بإرسال قوات إلى قطر، وبسبب المواقف الأمريكية والدولية – لم يعد في جعبة دول المقاطعة الكثير من السهام.
في مقابل ذلك التصعيد الكبير، والخطاب الإعلامي والدبلوماسي الصارم، وضعت دول المقاطعة شروطًا قاسية لتعود الأمور إلى مجاريها مع الدوحة، اعتبرتها الدوحة أقرب إلى طلب استسلام منه إلى مفاوضات معقولة، ولأن القطريين قد استطاعوا – عبر سلسلة من الإجراءات السياسية والعسكرية والاقتصادية – امتصاص الصدمة الأولى، وتخفيف الكثير من آثار المقاطعة، فقد بدا واضحًا أن الرد القطري الرافض للخضوع للاشتراطات لن يُقابل بمزيد من التصعيد؛ لأن التصعيد قد بلغ أوجه بالفعل، وهو ما يتجلّى في فشل المؤتمر الرباعي في القاهرة في الخروج بنتائج معقولة، بالرغم من التوقعات الكبرى.
ويمكن في هذا السياق المقارنة بين الاستجابة القطرية للأزمة المماثلة التي اندلعت في عام 2014، وأفضت إلى توقيع اتفاق الرياض الذي تنازلت فيه الدوحة تنازلات سياسية وإعلامية كبيرة، وبين الاستجابة القطرية للأزمة الحالية، التي يمكن اعتبارها أكثر «تصلبًا»، بالرغم من الفارق الضخم في حجم الضغوط بين الأمس واليوم.
2- لا توسّع دائرة العداء بغير طائل
في الأيام الأولى من الأزمة، خرج وزير الخارجية السعودية «عادل الجبير» بتصريح مثير للجدل، حين قال – في أثناء زيارة قام بها إلى باريس محاولًا حشد الدعم لموقف بلاده ضد قطر – «لقد طفح الكيل، وعلى قطر التوقف عن دعم جماعات مثل حماس والإخوان المسلمين».
لم يكن من المستغرب تمامًا هجوم الجبير على الإخوان المسلمين؛ فالجماعة مصنفة كجماعة إرهابية في المملكة منذ سنوات، لكن إقحام «حماس» في حديث الجبير، كان يمثل حرجًا شعبيًا للسعودية باعتبارها حركة مقاومة في المخيال الشعبي، سيما في ظل الجهود السابقة للسعوديين الذين حاولوا استمالة حماس إلى «محور سني» يقف في وجه النفوذ الإيراني.
ومما زاد الطين بلة تصريح السفير السعودي في الجزائر سامي عبد الله الصالح، والتي هاجم فيها حماس، واعتبر أنها تصنف «إرهابية» إذا كانت تسعى لإثارة المشاكل، معرّضًا بعلاقتها مع قطر قائلًا: «حق المقاومة مكفول للمنظمة، لكن ليس عبر الجلوس في فندق خمس نجوم بقطر وإدارة المؤامرات من هناك، بل المفروض أن يكون مع الشعب».
وإن كان هذا التوجه قد يُقرأ على أن مواقف كهذه على سبيل مغازلة الحكومات الغربية التي لها مواقف مناوئة للحركة، فإنها أوقعت محور المقاطعة في حرج شديد، وأتاح فرصة للدعاية القطرية التي ركزت على تطابق المواقف بين الرياض – أبو ظبي وبين تل أبيب، خاصة بعد قرار إسرائيل إغلاق مكتب الجزيرة «تيمنًا بما فعلته دول عربية»، ولعل هذا يفسر تردد الرياض تحديدًا في السير قدمًا بهذا المسار إلى نهايته، فامتنعت عن إدراج اسم حماس في قائمة المطالب الـ 13، كما قامتصحيفة الرياض بحذف خبر يسيء للحركة بعد عاصفة من الانتقادات.
3- اطلب مطالب «مجنونة» إن أردت.. لكن صِغها بطريقة معقولة
حملت عريضة المطالب المقدمة إلى قطر من قبل دول المقاطعة مطالب اعتبرتها قطر «اعتداء على السيادة»، ومطالب أخرى وصفتها وسائل إعلامية بـ«الغريبة»، كما استدعت بعض المطالب إدانة منظمات حقوقية ووسائل إعلامية؛ بسبب اعتبارها اعتداء على حرية الرأي والتعبير.
من المطالب التي تنتمي إلى الفئة الأولى، كان طلب إغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، ووقف كافة أشكال التعاون العسكري بين الدوحة وأنقرة، وهو الطلب الذي قوبل برفض قطري واستهجان تركي، حيث اعتبره وزير الدفاع «تدخلًا في العلاقات الثنائية بين البلدين»، فيما اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الطلب ينم عن «عدم احترام لبلاده»، كما جاء البند الأول مطالبًا بقطع قطر لكافة أشكال العلاقات مع إيران، في الوقت نفسه الذي تحتفظ فيه دولة الإماراتمثلًا بعلاقات اقتصادية وثيقة للغاية مع الجمهورية الإسلامية، وفي الوقت الذي صرح فيه مسؤولون عراقيون بطلب الرياض من بغداد التوسط لدى المسؤولين الإيرانيين لتحسين العلاقات بين البلدين.
أما المطالب التي تندرت عليها وسائل الإعلام القطرية، فمن ضمنها ما جاء في البند الأول من طلب طرد كافة العناصر المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني من قطر، فيما لمْ يُعلم سابقًا وجود أي من هذه العناصر على الأراضي القطرية، وطلب قطع كافة العلاقات مع تنظيم داعش، بالإضافة إلى اعتبار قائمة المطالب تلك لاغية حال لم يتم الموافقة عليها في غضون عشرة أيام، وهو الأمر الذي لم يتم، إذ ظل الحديث عن تلك المطالب قائمًا حتى بعد مضي المهلة الممنوحة.
ويبدو أن بعض المطالب قد حملت في طياتها طوق النجاة للقطريين من حيث لم يحتسب المقاطعون: فقد انتقد حقوقيون وإعلاميون البند السادس من قائمة المطالب، والذي دعا إلى إغلاق قناة الجزيرة، البند الحادي عشر «إغلاق كافة وسائل الإعلام التي تدعمها قطر بشكل مباشر أو غير مباشر، كمواقع عربي 21، والعربي الجديد، ومكملين، والشرق، وميدل إيست آي… إلخ»، واحتفت وسائل الإعلام القطرية بموقف «هيومان رايتس ووتش» الذي عد تلك المطالب اعتداء على حرية التعبير، و«عقابًا لملايين العرب بحرمانهم من وسيلة تغطية إعلامية مهمة».
صحيح أن مطالب «قاسية» مثل هذه لم تكن يومًا استثناء من قواعد الصراع الدول، وأن حرية التعبير وحقوق الإنسان في صلب الصراع بين الدول، لكن الصياغة كان يمكن أن تكون أكثر هدوءًا و«أقل استفزازًا»، ولعل هذا ما أدركته دول المقاطعة لاحقًا، ما يفسّر لاحقًا ما نقلته الصحافة الأجنبية عن مسؤولين إماراتيين بخصوص إعلان أن المطلب الحقيقي يتعلق بـ«تغييرات جوهرية وإعادة هيكلة» في قناة الجزيرة بدلًا عن إغلاقها.
4- لا تراهن على الشخص الخطأ
منذ اليوم الأول، ظهر انحياز الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» لموقف دول المقاطعة؛ إذ حفل حسابه على موقع التغريدات القصيرة «تويتر» بالتغريدات التي تطالب قطر بوقف تمويل الإرهاب ونشر الفكر المتطرف، فيما اعتبر اصطفافًا من قبل الرئيس الأمريكي وتماهيًا كبيرًا مع موقف الرياض وأبو ظبي، وهي المواقف ذاتها التي أكدها ترامب في مؤتمرات صحفية لاحقة.
إلا أن انحياز ترامب الواضح لم يُترجم إلى إجراءات أمريكية ملموسة وفعالة بذات القدر للضغط على قطر، بل سارعت المؤسسات الأمريكية إلى التأكيد على استمرار تحالفها مع الدوحة، وأجرت البحرية الأمريكية مناورات مشتركة في المياه القطرية بعد أقل من أسبوعين من بدء الأزمة، كما حث وزير الخارجية الأمريكي الدول المقاطعة على أن تكون قائمة مطالبها لقطر «معقولة».
وقد جاء تقرير صحيفة «واشنطن بوست»، الذي ذكر بأن عملية اختراق وكالة الأنباء القطرية «قنا» قد تمت هندستها في دولة الإمارات العربية المتحدة، اعتمادًا على مصادر استخباراتية إماراتية، ليؤشر على أن مجتمع الاستخبارات الأمريكي ليس راضيًا تمامًا عن خط دول المقاطعة، وخطواتها التي قد تهدد الاستقرار الهش لمنطقة الخليج وسط محيط يموج بالاضطرابات.
يمكن إذًا اعتبار أن إلقاء محور المقاطعة بثقله خلف شخص الرئيس الأمريكي، والتعويل عليه للضغط على الدوحة للرضوخ لمطالبها، لم يكن ذا فعالية تذكر، في مقابل الموقف القطري الذي كان أكثر تركيزًا على المؤسسات الأمريكية، الخارجية والبنتاجون والاستخبارات، وربما لم يكن من الصواب تمامًا المبالغة في تصور قدرة ترامب على حرف دفة السياسة الأمريكية الراسخة، سيما في ظل الإشكالات التي يعانيها داخليًا، ويمكن هنا استدعاء الحكمة القائلة بأنه يمكنك شراء بعض الرجال لبعض الوقت، لكن من المستحيل أن تشتري كل الرجال لكل الوقت.