الدوحة – بزنس كلاس:
لم يمر خبر إعادة الدوحة لسفيرها إلى طهران مرور الكرام لأنه خبر مهم بكل المقاييس ويحمل في طياته رسائل على غاية من الأهمية إقليمياً ودولياً. فقد رأى كثير من المحللين بأن قرار إعادة السفير القطري إلى إيران في هذا التوقيت بالذات إنما يأتي في إطار إعادة ترتيب وتمركز القوى الفاعلة في المنطقة. كما أن الحدث يعتبر رسالة واضحة بأن الدوحة ترفض بالمطلق مبدأ الهيمنة السعودية الموجهة إماراتياً على المنطقة للتوسع بالمساحات التي تنسحب منها واشنطن سياسياً. لذلك فإن هذه الرسالة تتلخص، كما يرى مراقبون، بأن الدوحة اختارت الذهاب في خيار السيادة إلى النهاية حتى لو كلفها ذلك الخروج من مجلس التعاون الذي أثبت فشله الوظيفي الذريع خلال الأزمة ليتضح بأنه لم يكن سوى مجرد منصة لفرض هيمنة الرياض على بقية دول الخليج ومحاولة استغلاله في الفترة الأخيرة كأداة لتوسع نفوذ المملكة على حساب التراجع الأمريكي في المنطقة، وكل ذلك بهندسة وتكتيك إماراتي يوجه البوصلة السعودية بالاتجاه الذي يخدم سلطة أبوظبي.
قطر اختارت الخروج من لعبة” خاسر – خاسر” هذه نحو بناء علاقات مستقلة دون ضغوط إيديولوجية أو توسعية لأي طرف على حساب الآخرين. فالدوحة عنما استدعت سفيرها من طهران، فعلت ذلك ليس لقناعتها بأن الرياض محقة بموقفها من إيران، بل وكما جرى في “عاصفة الحزم” سارت بركب الرياض كي لا يتصدع البيت الخليجي ويبقى متماسكاً. لكن الرياض لا تريد شركاء بل تابعين وهذا الدور لن تلعبه الدوحة حتى لو هجرت الخليج كله دفعة واحدة. لذلك انسحبت قطر من “حرب اليمن” الخاسرة وهاهي تعيد سفيرها إلى طهران في رسالة أخرى واضحة لجهود المصالحة الخليجية. على السعودية ان تفهم هي وأبوظبي على حد سواء بأن دول الخليج ليست دمى يتم تحريك خيوطها من الرياض أو أبوظبي كما تفعلان مع البحرين. وأن زمن التهديد بالحصار والتلويح باستخدام “العضلات المفتولة” قد ولى زمنه وليس هناك سوى طريقة واحدة للتعامل مع دول الخليج الأخرى سوى عبر ممر إجباري ومنطقي للعلاقات السليمة بين الدول، احترام سيادتها وقراراها المستقل والعمل على بناء تحالف حقيقي يقوم على خدمة شعوب المنطقة لا هيمنة فريق على آخر.
النقطة الثانية التي تكاد توازي الأولى أهمية ويمكن أن تكون أهم. يبدو المشهد الإقليمي للناظر شديد التعقيد لكنه في جوهره بسيط. واشنطن تنسحب تدريجياً من المنطقة، انسجاماً مع تراجع دورها الدولي الذي تعمقه بشدة سياسات إدارة الرئيس الحالي الحافلة بالكثير من الارتجالية والانفعال والمبالغة، وهو تراجع يحدث سواء عبر الحضور الفعلي على الأرض في المنطقة أو سياسياً. إضافة إلى وجود قوى أخرى كبيرة ومؤثرة تحاول أن تملئ الفراغ مثل روسيا بشكل مباشر تماماً وبشكل “ناعم” كالعادة كما تفعل بكين. وبات هناك معسكران يتصارعان سياسياً، وفي مناطق كثيرة عسكرياً، لا سيما في المنطقة هنا وأحياناً بتداخل غامض للغاية ومعقد جداً. وعليه فإن دول المنطقة الآن جميعها تقف على مفترق طريق إما أن تذهب باتجاه الركن الإسرائيلي أو تذهب بالاتجاه الآخر أو باتجاه ثالث تكون فيه على مسافة واحدة من الجميع لكن من منطلق استقرار وقوة وهو خيار صعب للغاية في منطقة يبلغ التحزب فيها مرحلة الحريق.
الرياض وأبوظبي قررتا المضي باتجاه المحطة الإسرائيلية وتجران معهما مصر والأردن والبحرين وحكومة ليبيا الجديدة، فماذا عن الفريق الآخر؟ قطر قررت أنه لا مصلحة لها ولا للعرب جميعاً بأن يكون الخيار الإسرائيلي هو الخيار الملائم لا سيما في هذه الحالة من الضعف العربي المثير للاشمئزاز. لأن التاريخ علمنا، لمن يقرأ، بأن إسرائيل دوما هي من توصلنا إلى هذه النقطة بالذات لتقطف ثمار حقول لم تزرعها هي بل نحن زرعناها لنقدم المحصول لها ثم بعد ذلك تعود لتضربنا على رأسنا مجدداً فنعيد الكرة من جديد في عملية استنزاف مهلكة.
قطر، من جانبها، يبدو أنها قررت الذهاب بالاتجاه الآخر، نحو قوى إقليمية تحافظ على توازن العلاقات، رغم هشاشته، في المنطقة من خلال التعامل مع طهران والتحالف مع تركيا، أقوى لاعبين إقليميين في المنطقة بجانب إسرائيل مع فارق مهم جداً بين الطرفين. تركيا وإيران تتعاملان مع دول المنطقة صحيح من باب المصالح لكنهما تحترمان كل التاريخ المشترك مع دول الجوار وتبنيان عليه وتبحثان عن شركاء فعليين وحقيقيين، لا كما تفعل إسرائيل التي تريد نسف كل التاريخ وخلق آخر جديد يتناسب مع روايتها ورؤيتها المهيمنة على المنطقة.
لذلك على الرياض أن تفكر جيداً باليد التي تريد مصافحتها بالمنطقة، وهذا ما فعلته فعلاً في الآونة الأخيرة، عندما بدأت “تغازل” طهران تارة من بوابة مقتدى الصدر وطوراً عبر نافذة وزير داخلية العراق رغم إنكارها الأمر علنياً. الدوحة وكالعادة عملت بشكل صحيح وواضح وعلى رؤوس الأشهاد، أرسلت سفيرها عائداً لطهران معلنة طلاقها للمعادلة الخليجية الجديدة. فيما سارعت طهران من جانبها، لتحية الموقف “المنطقي والواقعي” للدوحة مشددة على أن علاقات الشراكة والاحترام والأخوة، أمر على درجة عالية من الأهمية في تأسيس علاقة سليمة على أسس واضحة.