
بزنس كلاس: ميادة أبو خالد
تمضي دولة قطر بخطى واثقة نحو إعادة رسم معالم قطاعها العقاري، ضمن جهودها المتواصلة لتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030، التي ترتكز على التنمية المستدامة وبناء اقتصاد متنوع لا يعتمد على الطاقة كمصدر وحيد للنمو. ومن هذا المنطلق، يشهد القطاع العقاري في قطر تحوّلًا نوعيًا يجعله يتجاوز المفهوم التقليدي المرتبط بالبناء والتشييد، ليصبح أداة استراتيجية تساهم في تحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز جودة الحياة، واستقطاب الاستثمارات المحلية والدولية. وتؤكد الأرقام الرسمية هذا التحول، حيث ساهم القطاع العقاري بنسبة 7.4% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2025، بقيمة مضافة بلغت 13.44 مليار ريال قطري . ويأتي هذا في سياق نمو اقتصادي قوي، حيث حقق الاقتصاد القطري نموًا حقيقيًا بنسبة 3.7% في الربع الأول من العام نفسه، مدفوعًا بنمو القطاعات غير النفطية بنسبة 5.3%.
بناء مدن ذكية ومستدامة
تعكس خارطة الطريق التي وضعتها الدولة لتطوير القطاع العقاري رؤية متكاملة تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والبشرية، وتستهدف بناء بيئة عمرانية متقدمة، ذكية ومستدامة، تتوافق مع أفضل المعايير العالمية. فالتوجه نحو بناء مدن متكاملة البنية، مزودة بأحدث تقنيات البنية التحتية الرقمية، وملائمة للعيش والاستثمار، لا يأتي كخيار تجميلي، بل كضرورة استراتيجية لإعداد قطر لمرحلة ما بعد الطاقة، وضمان قدرة المدن على استيعاب النمو السكاني وتوفير سبل العيش الكريم لمختلف شرائح المجتمع. وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان قطر بلغ حوالي 3.12 مليون نسمة في عام 2025، مما يؤكد الحاجة لتطوير بنية تحتية حضرية قادرة على مواكبة هذا النمو.
تطوير البنية التحتية وتعزيز الإطار التشريعي
يجري العمل على تنمية البنية التحتية العقارية من خلال ضخ استثمارات كبيرة في المشاريع الحضرية الكبرى، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة قادرة على استقطاب رؤوس الأموال والمستثمرين، مع فتح المجال أمام القطاع الخاص للمساهمة الفاعلة في تنفيذ مشاريع التطوير العمراني. ويواكب هذا التوسع العمراني تطوير الإطار التشريعي والتنظيمي للسوق العقاري، بما يشمل تحديث قوانين التملك والاستثمار، وتيسير الإجراءات، وتعزيز الشفافية، مثل السماح بتملك الأجانب بنسبة 100% في معظم القطاعات والعقارات في مناطق محددة حديثًا ، وهو ما انعكس إيجابًا على السوق، وذلك بالتوازي مع ارتفاع الاستثمار العقاري العابر للحدود بنسبة 57% على أساس سنوي في الربع الأول من العام الجاري .
العدالة في الإسكان وتحسين جودة الحياة
لا تغفل الدولة عن البعد الاجتماعي في هذه الخارطة، إذ تركز على توفير خيارات سكنية متنوعة تستجيب للاحتياجات المتباينة لسكان الدولة، وتراعي التوزيع الديموغرافي، وتعزز من مفاهيم العدالة في الوصول إلى السكن الملائم، بما يسهم في تحسين جودة الحياة والرفاه المجتمعي. وتظهر بيانات السوق العقاري لعام 2025 هذا التنوع، حيث ارتفعت أسعار الشقق بنسبة 3.5% على أساس سنوي في الربع الثاني، بينما شهدت الفلل انخفاضًا طفيفًا بنسبة 4%، مما يعكس ديناميكيات مختلفة في قطاعات السوق.
التزام بيئي ومباني ذكية
تحظى الاعتبارات البيئية بحضور قوي في هذه الخطة، من خلال تبنّي مبادئ الاستدامة في كافة مراحل التخطيط والتشييد، وتشجيع المباني الخضراء، ورفع كفاءة استخدام الموارد، بما يضمن الحد من التأثيرات البيئية وتعزيز التوازن الإيكولوجي في المشهد الحضري المتنامي. وتُعد مشاريع المدن الذكية في لوسيل ومشيرب، التي تُقدر قيمتها مجتمعة بأكثر من 50 مليار دولار أمريكي، مثالًا حيًا على هذا الالتزام، حيث تستخدم أنظمة إدارة الطاقة القائمة على إنترنت الأشياء لتحسين استهلاك الطاقة في الوقت الفعلي .
مبادرات نوعية تعزز التحول
ومن بين المبادرات النوعية التي أطلقتها الدولة لتحقيق هذه الرؤية، تأتي رقمنة الإجراءات العقارية كخطوة أساسية لتسهيل تسجيل الملكيات وتوثيق المعاملات، وتوفير خدمات إلكترونية شفافة وسريعة تواكب متطلبات العصر الرقمي. كما يمثل تطوير المدن الذكية، مثل لوسيل ومشيرب، تجربة رائدة في الجمع بين التكنولوجيا والحداثة والاستدامة، ما يعكس نموذجًا حضريًا متقدمًا يُتوقع أن يُعمم في مشاريع مستقبلية أخرى. وتُعتبر لوسيل، التي تمتد على مساحة 38 كيلومترًا مربعًا، أول مدينة ذكية ومستدامة بالكامل في قطر، وتعمل كمخطط للمستقبل الحضري .
تحديات قائمة ومعالجات مدروسة
ومع كل هذا الزخم التنموي، لا يخلو القطاع من التحديات، حيث تؤثر تقلبات السوق الإقليمي والعالمي على الطلب العقاري، إلى جانب وجود فجوات في التوازن بين العرض والطلب، لا سيما في فئات معينة من العقارات، كالعقارات الفاخرة مقابل نقص نسبي في الإسكان الميسّر. وتبرز كذلك الحاجة إلى تنظيم السوق بصورة أدق والحد من الممارسات غير الإنتاجية، مثل المضاربات التي قد ترفع الأسعار بشكل غير مبرر وتضعف الاستقرار. وتسعى الجهات المعنية إلى معالجة هذه التحديات من خلال بناء قواعد بيانات متكاملة، وتعزيز الشفافية، وتطوير أدوات التحليل السوقي، وتقديم حلول تمويلية مبتكرة تدعم استمرارية النمو بطريقة متوازنة.
شراكات استراتيجية تقود التنفيذ
تُعد الشراكة بين القطاعين العام والخاص إحدى الركائز الأساسية في تنفيذ خارطة الطريق العقارية، إذ تلتزم الدولة بدورها في توفير الإطار التشريعي والتنظيمي المناسب، فيما يُسند إلى القطاع الخاص دور التنفيذ، والإدارة، والابتكار في تقديم مشاريع نوعية ترتقي بمعايير السكن والخدمات. ومن المتوقع أن تمنح قطر مشاريع بنظام الشراكة بين القطاعين العام والخاص بقيمة تقديرية تبلغ 85 مليار دولار بحلول عام 2030 . وتتيح هذه الشراكة فرصًا كبيرة لتطوير قطاعات حيوية مرتبطة بالعقار، مثل السياحة والتجارة والخدمات الترفيهية، وتساهم في خلق فرص عمل وتعزيز الديناميكية الاقتصادية.
آفاق واعدة لنمو مستدام
تشير التوقعات المستقبلية إلى أن القطاع العقاري في قطر مؤهل لتحقيق نمو مستدام على المدى الطويل، مدعومًا بتزايد الطلب المحلي والدولي، والاستمرار في تنفيذ المشاريع الكبرى، والتحسن التدريجي في البيئة التنظيمية. وتتوقع التقارير نمو سوق العقارات السكنية ليصل إلى 19.45 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 7.15 . % كما يُظهر السوق زخمًا متجددًا، حيث شهد الربع الثاني من عام 2025 زيادة بنسبة 114% على أساس سنوي في حجم المعاملات السكنية، بقيمة إجمالية بلغت 9.23 مليار ريال قطري . وتُظهر هذه المؤشرات أن قطر تسير في الاتجاه الصحيح نحو تأسيس نموذج تنموي متكامل يجمع بين التنوع الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والابتكار في إدارة المدن.
القطاع العقاري.. محرك استراتيجي للتنمية
وعليه، فإن القطاع العقاري في قطر لم يعد مجرد واجهة عمرانية تعكس ملامح النهضة العمرانية، بل أصبح محركًا حقيقيًا للتنمية الوطنية الشاملة، وأداة استراتيجية تسهم في صياغة مستقبل اقتصادي واجتماعي أكثر استدامة. ومن خلال رؤية واضحة، ودعم حكومي مستمر، وشراكات فعالة، تواصل قطر بناء منظومة عقارية متقدمة تستجيب لتطلعات الحاضر، وتؤسس لمستقبل أكثر ازدهارًا للأجيال القادمة.