معجزة قطر

أكملت دولة قطر منذ أيام قليلة عامها الأول في ظل حصار بري وبحري وجوي شامل كان يهدف لتقويض سيادة الدولة لتي لا يتجاوز عدد سكانها 300 ألف نسمة.

العام الماضي، في أوائل حزيران 2017، قام رباعي (الحصار) الذي تقوده السعودية والذي يتضمن البحرين والإمارات العربية المتحدة ومصر، بقطع علاقتها مع الدوحة وفرض حصار عليها بذريعة دعمها لما تسميه الإرهاب وإيواء قادته، الأمر الذي نفته دولة قطر جملة وتفصيلاً. وقبل الحصار وقطع العلاقات الدبلوماسية بأيام، تمت قرصنة وكالة الأنباء القطرية “قنا” ووسائل إعلام حكومية أخرى وتم بعد ذلك بث أخبار مفبركة نُسبت لقادة قطر. وتم استخدام هذا الأمر كذريعة لانخراط دول الحصار في مقامرتهم الخاسرة.

انجرت الولايات المتحدة في بداية الأمر مع ادعاءات دول الحصار، مع إظهار الرئيس الأمريكي (دونالد) ترمب دعم الحصار من خلال استخدام مفردات قاسية ضد قطر ودعوة الدوحة لأن تستجيب لمطالب دول الحصار والتي كانت أيضاً تتضمن مصدر الأخبار الوحيد الموثوق في الشرق الأوسط أي قناة الجزيرة. هذا الموقف الأمريكي مع أعلى سلطة في واشنطن، شجع السعوديين وأثار مخاوف جدية بأن رباعي الحصار كان يصعّد الموقف من أجل اجتياح قطر وقلب نظام الحكم فيها بقيادة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر. ولولا الدعم القوي والمباشر الذي قدمته تركيا بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من خلال إعلان تأييدها العلني والعملي  (بإرسال جنود أتراك إلى الدوحة) لدولة قطر بوجه المحاصرين، لكان احتمال الحرب أكيداً. وقد لعب التدخل التركي بالوقت المناسب دوراً رئيسياً في تهدئة “الرؤوس الحامية” بالتزامن مع بدء تحرك السلطات الأمريكية على خط إظهار الدعم لعدم التصعيد والعمل على تقريب وجهات النظر بين طرفي الأزمة.

ليس من السهل أبداً أن تتغلب على حصار يشبه ذلك المفروض على قطر. كان هدف ذلك الحصار يتمثل اساساً بفرض الوصاية على البلد الخليجي الغني وتقويض سيادته واستقلاله. كان الهدف من الحصار إذلال قطر بما يتجاوز مسألة “تقويم سلوكها” (كما أدعت دول الحصار). والأسوأ من ذلك كله حقيقة أن قطر كانت تعتمد في كل تموينها بالغذاء والدواء على الاستيراد من جيرانها. نحو 80% من احتياجات قطر من مواد الغذاء كانت تأتي من دول الخليج المجاورة للدوحة وحتى المواد المستوردة من مناطق ودول بعيدة أخرى كان لا بد لها أن تمر عبر جيرانها لا سيما حدود قطر البرية مع السعودية التي قامت بإغلاق تلك الحدود فور إعلان الحصار.

وفي تأكيد على علو كعبه، أظهر أمير البلاد الشيخ تميم قيادة تتمتع بمواصفات استثنائية في إدارة الأزمة بحذر وحكمة، وتحرك بسرعة لتجنيب قطر أي من تبعاتها. فقد قام سمو الأمير بتوظيف التوازنات الإقليمية والدولية لصالح الدوحة، أولاً من أجل إلغاء التهديد بالعدوان العسكري المباشر ولاحقاً في العمل على إضعاف تداعيات الحصار بشكل كبير. لكن الأهم كان بأن سمو الأمير الحالي هو الشخص (إضافة إلى سمو الأمير الوالد) الذي حول هذا البلد الصغير من دولة تدور في فلك السعودية إلى لاعب إقليمي ودولي مهم بلغت قوته الناعمة أبعد بكثير من منطقة الخليج.

في الساعات الأولى بعد إعلان الحصار وقطع العلاقات مع قطر، كان هناك توتر بين المواطنين والمقيمين في قطر لأن الحصار تسبب بنقص في المواد الغذائية. وهذا ما دفع الناس ليهرعوا إلى مراكز التسوق وشراء كل ما يمكن شرائه من تلك المواد ما أدى لاختفاء كميات كبيرة من المواد الغذائية من رفوف مراكز التسوق. لكن سرعان ما تدبرت القيادة القطرية الأمر بتأمين فوري للمواد الغذائية من إيران وتركيا على جناح السرعة وتمكنت من إعادة الاستقرار للسوق في اقل من 24 ساعة. بعد ذلك، أخذت قطر خطوات بعيدة المدى في هذا الإطار لتأمين أوضاعها سواء لجهة الأمن الغذائي أو  أمن حدودها كدولة من خلال تعزيز وتقوية شراكاتها مع عدة دول. فقد قامت الدوحة بتجديد الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة، وقامت بتفعيل اتفاقية دفاعية خاصة وطويلة الأجل مع تركيا، وهي الآن تطور علاقات وثيقة مع دولة روسيا الاتحادية التي ستزودها بنظام دفاع جوي متقدم جداً (نظام أس 400 لصواريخ الدفاع الجوي)، رغم الاعتراضات الجدية من قبل السعوديين.

لقد تمكنت قطر بنجاح من التصدي للتحركات السعودية التي كانت تحاول عزلها، وذلك من خلال تعزيز وتعميق علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة  إضافة لتنشيط روابطها مع الاتحاد الأوروبي. كما تحدت الدوحة الهيمنة السعودية على مجلس التعاون الخليجي من خلال تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية مع سلطنة عُمان والكويت – الدولتان العضوان في المجلس والتي رفضتا أن تسيرا وفق التوجه السعودي لحصار قطر.

وخلال 12 شهرا فقط، لم تنجح قطر في تجنب عاصفة الحصار وتأثيراتها، بل حولت أكبر تحدي خارجي لوجودها إلى سلسلة عظيمة من الفرص، مجددة الأمل والثقة بين ابناء شعبها. فقد شكّل الحصار  حافزاً صادماً لعمل جبار من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي. إذ قامت الدوحة بإنشاء مزارع وحولت الصحراء إلى أرض مثمرة. وانتقلت قطر من حالة إنتاج أقل من 1% من المواد الغذائية التي تحتاجها إلى أن أصبحت اليوم قادرة على تأمين نحو 50% من حاجتها اليومية للحليب والسمك وبقية أنواع اللحوم وذلك عبر الإنتاج المحلي. وتعمل الحكومة على الوصول لهدف طموح بإنتاج 90% من المواد الغذائية الأساسية التي تحتاجها محلياً. أي 90% من المواد الغذائية سوف تصبح بحلول العام القادم إنتاج محلي بعد أن كانت مجرد 1% وهذا إنجاز عظيم للغاية في فترة قياسية. وإذا نظرنا إلى ما حققته قطر خلال عام فإن الهدف الجديد هذا قابل للتحقيق بحلول العام القادم.

لمعالجة مشكلة إغلاق المسارات البحرية والجوية من قبل دول الحصار، افتتحت قطر خطوط جوية وبحرية جديدة وقامت بإعداد ميناءها الخاص (ميناء حمد البحري) لتلبية متطلبات الشحن البحري. ومنذ بدء الحصار، استقبلت موانئ قطر مليون حاوية نمطية عبر ميناء حمد البحري الذي سيبلغ قدرته الكاملة الحالية والبالغة 7.5 مليون حاوية خلال عام واحد منذ افتتاحه رسمياً.

وبقيت الإدارة الناجحة لمونديال قطر 2022 لكرة القدم واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الدوحة. فعلى الرغم من الحصار الخانق، تمكنت قطر من متابعة تنفيذ كافة مشاريع مونديال 2022 ومعظم تلك المشاريع يتوقع أن تنتهي قبل المواعيد المقررة لها. بعد انطلاق الحصار، طُلب من الاتحاد الدولي لكرة القدم، البحث عن بديل لدولة قطر من أجل تنظيم نهائيات كأس العالم 2022، لكن الاتحاد أظهر ثقة كبيرة بقدرة قطر على تجاوز هذه المرحلة المضطربة (نتيجة الحصار) كون أعمال البنية التحتية  في مشاريع المونديال لم تتأثر مطلقاً بالحصار والعمل فيها ما زال مستمراً على مدار الساعة.

يمكن رؤية أو قياس الثقة الدولية بإدارة قطر لحدث بحجم نهائيات كاس العالم لكرة القدم، كأول دولة في الشرق الأوسط  لاستضافة المونديال من خلال حقيقة أن منظمة التجارة الدولية قد وضعت شبه الجزيرة الصغيرة تلك ضمن أفضل 20 بلد في العالم في قائمة التنافسية العالمية. واستمرت عملة البلاد (الريال القطري) بأن تكون قوية رغم المحاولات الكثيرة للتلاعب بها وإضعافها في الأسواق الدولية. كانت فيتش للتصنيف الائتماني، واحدة من ثلاثة أكبر وكالات تنصيف ائتماني في العالم، قد خفضت توقعاتها بشأن الاقتصاد القطري بعد الحصار، لتعود الشهر الماضي وتقول بأن قطر تجاوزت الأزمة بنجاح.

وصف حسين أحمد، وهو مراسل صحفي هندي بارز يعمل في قطر منذ نحو عقدين، الحالة في الذكرى السنوية الأولى للحصار بأنها “مزيج من التحدي والثقة الكبيرة بالنفس سواء بين صفوف القطريين أو حتى المقيمين.. وهي صورة مختلفة كلياً عما كانت عليه في الأيام الأولى للحصار عندما كان هناك شعور بالهلع”. يعتقد حسين بأن الحصار كان نعمة كبيرة مع تمكن السكان من أن يتخلوا عن اعتمادهم على ما يأتي من الخارج في كل شيء تقريباً (استيراد كل شيء من الخارج)، من المواد الغذائية إلى حاجياتهم اليومية الأخرى. وأضاف بأن هذا الأمر سوف يقوي “اعتمادنا على أنفسنا وسيزيد مرونتنا كما سيؤدي لإضعاف النتائج المرجوة من الحصار غير القانوني”.

ترجمة: سـليمان حسون

عن صحيفة The News الباكستانية

بقلم:  Murtaza Shibli

السابق
بورصة قطر … حوافز استثمارية جديدة ومنصة جاذبة للمحافظ المحلية والعالمية
التالي
حصلت على صواريخ قصيرة المدى.. قطر تفتح باب الصين!