يُعرف باسم “الطريق السريع المميز”، وهو طريقٌ واسعٌ ممهد تتوسطه حارةٌ مرورية، ويربط بين قصر الكرملين الرئاسي ومحل إقامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في غابات أشجار الصنوبر، على بُعد 14 ميلاً (22.5 كم) خارج العاصمة موسكو.
يخصص القانون الحارة الوسطى لحالات الطوارئ، ولهذا يستخدمها غالباً الأثرياء وأصحاب الامتيازات فقط لتخطي الازدحام المروري. وأصبحت إمكانية الولوج لتلك الحارة رمزاً للمكانة الاجتماعية الرفيعة، والتي تعد العملة الأساسية في روسيا هذه الأيام، بحسب تقرير لصحيفةThe New York Times الأميركية.
لكنّ ثمة أمراً آخر مميزاً بهذا الطريق السريع الذي يمر عبر جادتي كوتوزوفسكي ونوفي أربات؛ فعكس الكثير من الطرق السريعة متعددة الحارات المرورية في روسيا، يفتقر الطريق إلى حواجز الأمان للفصل بين التدفقات المرورية، ولإثناء المشاة عن الوجود في قارعة الطريق. ووفقاً لتقارير شرطية وخبراء مرور، فهذا الطريق يعد واحداً من أخطر الطرق العامة في المدينة.
إذ ذكرت التقارير أن 5 حالات وفاة على الأقل في الحوادث التي وقعت على الطريق السريع في عام 2017 واثنتين في أثناء العام الجاري (2018)- ترجع إلى عدم وجود حاجز مروري أوسط فاصل. وإحدى حالات الوفاة تلك هي لشرطي مرور يدعى سيرغي غراتشيف (32 عاماً)، وهو أبٌ لطفلين، كان يقف في منتصف الطريق وتوفي بموقع الحادث.
قصة مصغرة عن روسيا
يعتبر البعض أن وجود هذا الطريق السريع المميز دون حواجز الأمان يروي قصةً مصغرة عن روسيا الحالية؛ حيث تسود ثقافة الحظوة في المجتمع.
ويقول ميخائيل بلينكين، كبير خبراء النقل في روسيا، إن “هذا (الوضع) يمثل مرآةً مصغرةً تعكس مشاكل أكبر بكثيرٍ في روسيا”، بحسب الصحيفة الأميركية.
لدى روسيا ثقافةٌ مسهبة لما يسمى “Ponty”، وهي كلمة محلية دارجة تعني التباهي، وتشير إلى نظامٍ من الرموز والأنماط السلوكية التي تعكس المكانة الاجتماعية للأشخاص. ويقول سيرغي تبليجين (35 عاماً)، وهو دارسٌ توّاقٌ إلى هذه الثقافة، إن هذا الطريق السريع المميز رمزٌ ممتاز لها.
وأضاف تبليجين، الذي يمتلك شركة تنظيم رحلات في سانت بطرسبرغ: “أعرف هذه الثقافة جيداً، هي جزءٌ من حياتي”.
يدير تبليجين مجتمعاً إلكترونياً يضم بضع عشرات من المتحمسين، الذين يجوبون المدن الروسية بحثاً عن سياراتٍ فارهة ذات لوحات ترخيص مميزة تخالف القواعد المرورية؛ وكأن أصحابها يرغبون في إثبات أن مكانتهم الاجتماعية لا يمكن المساس بها. ويلتقط أعضاء مجموعته تلك صوراً للسيارات وينشرونها عبر الإنترنت. ويضم المنتدى الإلكتروني الخاص بتبليجين سلسلةً مخصصة لهذا الطريق السريع المميز.
وقال تبليجين في أثناء جلوسه بمطعم مخصص للبرغر: “لا يمكنك إدراك كم أنت شخصٌ مميز إلى أن تقود سيارتك في منتصف هذا الطريق. العثور عليها (السيارات الفارهة) بمثابة رياضة بالنسبة لنا”.
طريق منذ أكثر من نصف قرن
بُني الطريق السريع في خمسينيات القرن العشرين لربط قصر الكرملين بمقرات إقامة أعضاء الحكومة في غرب موسكو. وتقع على طول الطريق مبانٍ ضخمة تعود لحقبة ستالين، شُيِّدت لصفوة المجتمع السوفييتي. وكانت الحارة المرورية الوسطى بالطريق مخصصة في بادئ الأمر للسيارات الحكومية، لكن وقتها كانت الحالة المرورية أقل ازدحاماً بكثير؛ لذا لم تقع حوادث كثيرة كما هو الحال الآن.
يعكس هذا الطريق حالياً التسلسل الهرمي الذي ينظم الحياة في روسيا وفق بناءٍ من أعلى إلى أسفل، بحسب الصحيفة الأميركية.
تعطلت الحركة المرورية تماماً في أثناء عبور السيارات التي تقلّ الرئيس الروسي بوتين ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف. ويقول دعاة السلامة المرورية إنه لا يُسمح سوى للسيارات التي تحمل لوحاتٍ معدنية مميزة باستخدم الحارة المرورية التي تتوسط الطريق، أما مخالفو تلك القاعدة فسرعان ما تنحّيهم الشرطة بعيداً عن الطريق. في حين يستخدم باقي الوزراء الطرق العامة، وتكون سياراتهم محاطة ببضع سيارات تابعة للشرطة، وفقاً لمنزلة كل وزير.
تجوب فرقةٌ خاصة من شرطة المرور الطريق، المجهز أيضاً بشبكة كاميرات مراقبة. وفي عام 2013، اصطدمت سيارة حاجي مهاشيف نائب رئيس وزراء داغستان -جمهورية روسية تقع شمال القوقاز- بسيارة أخرى في الحارة المميزة. ولقي حتفه هو وشخصان آخران كانا يستقلان السيارة الأخرى.
نشأ سيرغي ميدفيديف، المعلِّق ومقدِّم البرامج التلفزيونية الشهير (الذي لا تربطه صلة برئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف)، في إحدى المنازل الرائعة القريبة من الطريق السريع، وشهد كثيراً من حوادث التصادم عليه. وكان يقطن بالقرب منه الزعيم السوفييتي الأسبق ليونيد بريجنيف.
المكانة الاجتماعية
يقول ميدفيديف، المحاضر في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو: “في روسيا، عليك دائماً أن تثبت مكانتك الاجتماعية. أحد أهم الأسئلة التي تدور حولها الحياة في روسيا اليوم: من أنت؟ من أنت لتقود على مثل هذا الطريق، أو لتسكن بهذا المنزل، أو لتسير برفقة هذه المرأة؟”.
في ظل حكم النظام السوفييتي القديم، كان يعتمد على الصفة الرسمية كي يحصل الأشخاص على شققٍ في مبنى معين، أو لتكون لديهم صلاحية الوصول لمنتجعاتٍ محددة أو محال بقالة متميزة مخصصة لكبار المسؤولين وعملائهم، أو ما كان يسمى “مجلس السوفييت الأعلى”.
واختفى هذا النظام بعض الوقت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. وتمثلت على سبيل المثال أحد الأعمال الدعائية الشهيرة والمذهلة للرئيس بوريس يلتسن في الذهاب إلى العمل مستقلاً الحافلة الكهربائية.
غير أن هذا النظام سرعان ما عاود الظهور بروسيا الجديدة الرأسمالية، وازدهر في ظل حكم الرئيس بوتين، الذي مر موكبه في واقعةٍ شهيرة عبر جزءٍ من الطريق السريع المميز الذي يمر عبر جادة نوفي أربات، الذي جرى إخلاؤه فعلياً خلال مراسم تنصيبه الأخيرة في عام 2012.
ووفقاً لبيوتر شكوماتوف، مدير مجموعة “مجتمع الدلاء الزرقاء” المكونة من سائقين يحتجون على استخدام السيارات الحكومية وغيرها من سيارات الأثرياء المصابيح الزرقاء على الطرق في روسيا، فالسيارة التي صدمت رجل المرور غراتشيف في سبتمبر/أيلول 2017، كانت تحمل لوحة معدنية أرقامها مخصصة لجهاز الأمن الفيدرالي (إف إس بي). وقال شكوماتوف إنه تعرَّف على اللوحة المعدنية من الصور التي التُقطت لموقع حادث التصادم، بحسب الصحيفة الأميركية.
حوادث وأصحابها هاربون
وكان ألكسي رازغونوف، وهو سائق سيارة أجرة، شاهداً على الحادث، وسجل مقطع فيديوللآثار التي خلّفها. وقال رازغونوف في مقابلةٍ إن اللوحة المعدنية للسيارة انتزعت سريعاً عقب وقوع الحادث، وغادر قائد السيارة الموقع مسرعاً في سيارةٍ من طراز فورد فوكس تحمل لوحة معدنية خاصة بالسيارات الحكومية. وأضاف أن ضباطاً من شرطة المرور كانوا حاضرين طوال هذا الوقت.
وقال ضباط شرطة المرور في تقريرهم الرسمي إن قائد السيارة المتسببة بالحادث غادر الموقع، ولم يجر التعرف عليه.
وتعهد وزير الداخلية الروسي بإجراء تحقيق موسع في الحادث، إلا أنه لم يجر الإعلان عن التوصل لأي نتائج. ولم تستجب أيٌ من الأجهزة الأمنية الحكومية المسؤولة عن إجراء تحقيق لطلب للتعليق على الأمر، بحسب الصحيفة الأميركية.
وقال المحاضر ميدفيديف إنه إذا قدت سيارةً في منتصف طريق سريع يغلق للسماح بمرور موكب الرئيس بوتين؛ فهذا يعني أنك تنتمي للطبقة الأسمى في المجتمع. وبالنسبة له فالطريق يرمز لأحد أهم مبادئ السياسات الروسية والحياة بصفة عامة؛ وهو أن النخبة تحصل على معاملةٍ خاصة، حتى وإن ترتب على ذلك تعريض حياة المواطنين العاديين للخطر.
وأضاف ميدفيديف: “أعتقد أن روسيا قد تنهار إذا ما وضعت حواجز على الحارة الوسطى”.