يبدو أن الشركات متعددة الجنسيات التي تسيطر على الفكر العالمي في العقود الأخيرة، وتتحكم في الفكر الاقتصادي العالمي لتحوله إلى “قرية صغيرة” في شعار يخلق لذة لدى المستمع وهو في الحقيقة يخفي عملية استغلال واضح للشعوب الفقيرة في شكل جديد للعبودية، يبدو أنها فكرة بدأت تغزو عالم كرة القدم، فالأندية عام تلو الآخر تنسلخ عن هويتها المحلية والقومية، وتحاول التغلغل في الثقافات المختلفة للشعوب لتتحول إلى قيمة اقتصادية تنتشر عبر العالم.
هذه العملية في الحقيقة تتم منذ زمن، فهي ليست وليدة الوقت الحالي، لكن الانتقال التدريجي كان يحصل عن طريق بناء اسم تجاري عالمي وشعبية جارفة مثلما حصل مع ريال مدريد، برشلونة، مانشستر يونايتد، وغيرهم.
يوفنتوس أحد الأندية التي أسست لعلامة تجارية عابرة للقارات، لكن في ذات الوقت لم يكن النادي منسلخ عن مدينة تورينو التي ينتمي إليها والهوية الإيطالية التي انبثق منها، مثل أن برشلونة لا ينسلخ عن إقليم كتالونيا، ومثل معظم الأندية الكبرى التي حققت نجاح عالمي تجارياً لكنها لم تنسخ عن الهوية المحلية.
لكن يوفنتوس قرر الانتقال للخطوة التالية، فبدلاً من أن يكون نادي بهوية إيطالية يهدف للتنافس الرياضي لتكريس مفهوم الانتماء والتجذر للمنطقة والمدينة، أصبح علامة تجارية تحمل هوية المكان الذي تتواجد فيه أياً كان حول العالم، أو لا تحمل هوية أحد، بحيث تصبح شركة لديها شعار وحيد “الربح والأموال”.
المقصود هنا ليس الربح المالي بهدف البقاء في دائرة التنافس وبما يخدم المنطقة التي يتواجد فيها من مفهوم اقتصادي أو تنموي، بل المقصود هنا الربح لأجل المساهمين في النادي أولاً وأخيراً بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بالهوية ومفهوم التنافس الرياضي، وكلا الهدفين مختلفان كلياً في المضمون وآلية العمل.
ربما عشاق يوفنتوس في الوطن العربي لن يعجبهم هذا الكلام، وفي الحقيقة أن لا أقصد يوفنتوس بالتحديد هنا، بقدر ما أقصد كل نادي كبير في أوروبا، فبعد السيدة العجوز سنشاهد ريال مدريد وبرشلونة والأندية الإنجليزية مثل مانشستر يونايتد ومانشستر سيتي… الخ جميعها تحذو حذوه، والتي بالفعل تعد الخطوات لهذا الأمر، لكن يوفنتوس كان هو السباق على ما يبدو بهذا المجل.
تقرير نُشر على موقع يوفنتوس في السادس عشر من يناير الحالي يلخص الفكرة والمضمون بواقعية تامة “أبيض وأسود والمزيد، المستقبل يوفنتوس. يوفنتوس يوسع حدود عالمه”.
إذاً هو يوفنتوس فقط، ليس تورينو، ليس إيطاليا، هو يوفنتوس الممثل بالمالكين لأسهم النادي بمفهوم اقتصادي وربحي بحت وليس رياضي قومي، وهو توجه جديد يدخل كجزء منه تغيير الشعار، أي أن تغيير الشعار جزء من العملية الكبرى وليس العملية الكبرى بحد ذاتها كما رأى عشاق يوفنتوس.
“هدف يوفنتوس توسيع الجانب التجاري من خلال سلسلة من الابتكارات التي تستهدف عشاق النادي حول العالم، بل وتستهدف الأشخاص الذي يملكون اهتمام أقل في لعبة كرة القدم. لا نريد أن يرانا الناس مجرد فريق يؤدي على أرض الملعب. التغيير يشمل أيضاً العلامة التجارية البصرية، نتيجة وجود توجه جديد لا هوادة فيه بصنع هوية بصرية تقلب عالم الرياضة وتقاليده القديمة رأساً على عقب، وتشق الطريق للآخرين لفعل ذات الأمر”.
مانفريدي ريكا، الرئيس التنفيذي للشركة التي تساهم في صنع مفهوم “أبيض وأسود وأكثر من ذلك” مع يوفنتوس قال في تصريح بهذا الشأن “لا يوجد نادي أوروبي قادر على تجاوز مفاهيم الرياضة ونقل الفلسفة إلى ما وراء ذلك”. طبعاً ريكا لن يقول ما هي الفلسفة التي يريدها، لأنه سيجد حرجاً أن يقول: نريد أن نكسب الأموال، ونحلب الشعوب عبر شعبية بناها فريق رياضي تنافسي في لعبة يلعبها الأطفال بأزقة الشوارع.
وربما يتساءل البعض، إذا كان هذا هدف يوفنتوس في مشروعه ما علاقة الشعار في الأمر ولماذا يتم تغييره؟
الشعار هو الأساس لتكريس مفهوم الانسلاخ عن الهوية الإيطالية ومدينة تورينو
لا يوجد شعار لنادي حول العالم لا يحمل مفاهيم وقيم ومعتقدات المنطقة التي يتواجد فيها، وإن تواجد هذا النادي فيكون خلل في مفهوم مؤسسيه حينما قرروا بناء النادي.
يوفنتوس هو جزء من هذه المعادلة، أو كان جزء من المعادلة، فالاستياء داخل تورينو حين تغيير الشعار ليس كما اعتقدت الجماهير العربية، لأنه يمثل رمز للنجاح، بل لأنه يمثل رمز لهويتهم وثقافتهم المتجذرة منذ سنين.
الدرع المتواجد في قلب شعار يوفنتوس القديم يعرف باسم “الدرع الفرنسي القديم” والذي كانت تستخدمه جيوش المنطقة في الفترة ما بين القرنين العاشر والخامس عشر، أما الثور المتواجد وسط الدرع فهو مأخوذ من علم مدينة تورينو، وهو رمز للمدينة. كما أن التاج يرمز إلى مدينة تورينو فترة الحكم الروماني. أما الشكل البيضوي للشعار فهو مأخوذ من درع الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا.
بمعنى أصح، شعار يوفنتوس كان يمثل الهوية التي نشأ منها النادي، والتي حقق بواسطتها نجاحه الرياضي، لذلك إن قرر النادي النظر في “الفلسفة خلف الرياضة” بما يجعله شركة بمفاهيم تتحول وتتلون حسب المنطقة التي تتواجد فيها من أجل الربح وحصد الأموال، فحينها ستكون الخطوة الأولى استبدال الشعار لأنه يرمز إلى مدينة تورينو.
الشعار الجديد لا يوجد فيه أي شيء يرمز إلى إيطاليا، أو إلى تورينو، وربما يسعد هذا الأمر عشاق النادي حول العالم لأنه أصبح “نادي الجميع” لكن في الحقيقة الأمر عكس ذلك، لأن المطلوب هو ابتزاز الجميع من أجل تحقيق المنفعة التي تعود على الملاك والمساهمين في النادي فقط.
هذه الفكرة تغير المفهوم الذي نشأت عليه أندية كرة القدم، والذي يعنى بالتنافس الرياضي أولاً، وتحقيق النجاح فيه، والذي سيأتي عبره نجاح اقتصادي ومالي، بما يخدم هوية المنطقة ويعزز من انتماء أبناء المدينة لمدينتهم، ثم يعود بالنفع المالي عليهم.
طبعاً بمشروع يوفنتوس الجديد لا تستبعد أن تراه يوماً يلعب في دوري آخر غير الإيطالي، ولست أبالغ في ذلك لأن الأندية الأوروبية الكبرى تحاول في الوقت الحالي الانسحاب شيئاً فشيئاً من البطولات المحلية للعب في بطولة واحدة ليست تابعة لمنطقة ما، مقابل أن توفر هذه المسابقة العامل الأهم، المال والربح المادي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى. هذا هو الهدف بالأساس من فكرة “دوري أوروبا الممتاز” الذي تنادي به كبرى الأندية الأوروبية.
البعض يعتبر أن يكون الربح الهدف الرئيسي والأساسي لأندية كرة القدم أمر عادي وطبيعي، وهو في الحقيقة قصور نظر وسطحية مبالغ بها، لأن التحول للربح كهدف رئيسي وأسمى سيجعل من أي نادي يتجه إلى دولة فقيرة ليستعبد شعبها بساعات عمل طويلة، من أجل إصدار منتج يكلف بضعة دولارات، ثم بيعه بالسوق الأوروبية وحول العالم مقابل 80 دولار أو أكثر.
هذا ما تفعله الشركات الراعية للأندية حالياً، تستعبد شعوب وتصدر منتج رخيص، وتبيعه عالمياً على أنه منتج “صنف أول” بأسعار مضاعفة، ويبدو أن الأندية قررت أن تلعب اللعبة بنفسها هذه المرة.