
شهدت سوريا تطوراً لافتاً بإعلان اتفاق اندماج قوات سوريا الديمقراطية مع مؤسسات الدولة، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم، في “قفزة للأمام” يُمكن البناء عليها لتعزيز جملة من المتغيرات الاقتصادية الأوسع نطاقاً، التي من شأنها دعم جهود السلطات الحالية للبناء الاقتصادي، لا سيما مع ما تتمتع به المناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” من أهمية استراتيجية واقتصادية واسعة النطاق، خاصة مع كونها تضم حقول النفط والغاز السورية.
الاتفاق الذي وقعه الرئيس السوري، أحمد الشرع، مع قائد “سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي، ينص على (ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة، مع وقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية، ودمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن الدولة”.
كما ينص أيضاً على أن “المجتمع الكردي أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة حقوقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية”.
يشكل هذا الاتفاق نقطة تحول بارزة في مسار بناء الدولة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، ويمهد لمرحلة جديدة يمكن أن تسهم في إعادة هيكلة القطاعات الإنتاجية في المناطق الشرقية والشمالية، عبر استعادة سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية وإعادة إدماجها ضمن الخطة الاقتصادية الوطنية.
ولطالما شكلت المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة “قسد” ثقلاً اقتصادياً؛ بحكم احتضانها حقول النفط والغاز الرئيسية، علاوة على إسهاماتها في القطاع الزراعي، ومن ثم من شأن الاتفاق فتح الباب أمام تعزيز فرص إطلاق مشروعات جديدة في قطاعات مختلفة، بدعم من التفاهم السياسي الذي قد يخفف من حدة الاضطرابات الأمنية التي طالما أعاقت التنمية، وبما ينعكس ويمتد ليشمل مجمل الاقتصاد السوري، وحلحلة أزمات، مثل أزمة الكهرباء.
أبرز بنود الاتفاق بين قسد والدولة السورية
▪️ ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية.
▪️ وقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية.
▪️ دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن الدولة.
▪️ المجتمع الكردي أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة حقوقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية
قصة قسد
بعد أقل من من عامٍ على انطلاقة شرارة الأحداث في سوريا، تم الإعلان عن إقامة “إدارة ذاتية” في مناطق نفوذ الأكراد في الشملا والشرق، وذلك بعد أن انسحبت القوات التابعة للنظام السوري حينها من أجزاء واسعة من تلك المناطق، وتحديداً في العام 2012.
ومنذ ذلك الحين توسّعت دائرة السيطرة بشكل تدريجي، في الوقت الذي خاض فيه المقاتلون فيها معارك ضارية -بدعمٍ من التحالف الدولي آنذاك بقيادة الولايات المتحدة الأميركية- لطرد تنظيم الدولة “داعش”.
أما الظهور الأول لـ “قوات سوريا الديمقراطية” كتحالف مُنظم تخت هذا الاسم، واختصاره “قسد”، فقد ظهر بداية من العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2015 وبعد الهزائم التي مُني بها تنظيم داعش في سوريا.
وشكلت وحدات حماية الشعب الكردية عماد التحالف الذي يضم فصائل مختلفة ومنوعة الأعراض، بما في ذلك فصائل عربية وسريانية ومسيحية، بعد أن اكتسبت تلك القوات شهرة واسعة على نطاق محلي وإقليمي ودولي بعد تصديها لداعش، خاصة في معارك كوباني (عين العرب) الشهيرة في سبتمبر/ أيلول 2014.
شكلت “قسد” الجناح المسلح للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، بينما جناحها السياسي يتمثل في مجلس سوريا الديمقراطية، الذي يُطلق عليه “مسد”.
نسبة السيطرة
وحتى قبل سقوط النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد أواخر العام الماضي 2024 كانت نسبة سيطرة “قسد” من الأراضي السورية تصل إلى نحو 30% -توّزعت على نطاق محافظة الحسكة في الشمال الشرقي، والرقة (التي كان يتخذها تنظيم داعش عاصمة له قبل سقوطه) علاوة على أجزاء من دير الزور وريف حلب الشمالي الشرقي- وتمتلك قوة عسكرية قويّة تأتي في المرتبة الثانية خلفاً للجيش النظامي آنذاك.
وبذلك تصل حدود السيطرة الميدانية لقوات سوريا الديمقراطية على مساحة بحجم 60 ألف كيلومتر تقريباً من مساحة البلاد المقدرة بـ 185 ألف كيلومتر.
وتشير تقديرات -مستندة إلى تصريحات سابقة لقائد قسد مظلوم عبدي بصحيفة ذا تايمز البريطانية- إلى أن عدد القوات ضمن التحالف يصل إلى 100 ألف عنصر. وتشير بيانات للبنتاغون أن النسبة الأكبر (تصل إلى 60%) من تلك القوات من المقاتلين العرب، بينما الأكراد تصل نسبتهم إلى 40% (وهي تقديرات مختلف عليها).
ومنذ الإطاحة بالأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تخوض قوات سوريا الديمقراطية قتالا ضد قوات تركية وفصائل مسلحة موالية لها.
أهمية اقتصادية متنامية
تتمتع تلك المناطق بأهمية استراتيجية واقتصادية خاصة، لا سيما مع وقوع حقول النفط السورية في حزامها الرئيسي، حيث تضم المنطقة ما يصل إلى 95% من الاحتياطي النفطي ( البالغ 2.5 مليار برميل) والغازي للبلاد. بينما تشير بعض التقارير إلى أن عوائد النفط في المنطقة تقدر بنحو ما يصل إلى 3 مليارات دولار (وفق إنيرجي فويس).
يشار بشكل خاص حقل العمر (أكبر حقول النفط في سورية مساحة وإنتاجاً، ويقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات على بعد حوالي 10 كم شرق مدينة الميادين في محافظة دير الزور، وكان ينتج نحو 80 ألف برميل يومياً)، علاوة على حقول التنك (في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور شرق سوريا)، والجفرة في دير الزور (أول حقل يتم استكشاف النفط به). إضافة إلى تلك الحقول، فإن حقولاً صغيرة أيضاً تقع ضمن هذه النطاقات الخاضعة لسيطرة قسد، في كلٍ من الحسكة والرقة.
وحقل السويدية في محافظة الحسكة، والذي يعد أحد أهم الحقول في سوريا، والذي كان ينتج ما بين 110 آلاف إلى 116 ألف برميل من النفط يومياً. وحقل الرميلان، الذي كان ينتج 90 ألف برميل يومياً.
كما تقع حقول غاز رئيسية ضمن هذا النطاق، مثل حقل كونيكو (في محافظة دير الزور معروف في سوريا محليًا باسم معمل غاز الطابية).
ومن عوامل الأهمية الاقتصادية للمناطق التي تسيطر عليها “قسد” هو وقوع سدود على نهر الفرات في حزام سيطرتها، كما أن تلك المناطق تشتهر بالإنتاج الزراعي، ومن ثمّ عُرفت بكونها “سلة غذاء سوريا”.
وفي 25 فبراير/ شباط الماضي، وللمرة الأولى منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تم استئناف توريد النفط من حقول شمال شرقي سوريا، الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، إلى دمشق، بحسب ما أعلنته وزارة النفط السورية.
واستأنفت قوات سوريا الديمقراطية عبر نقل الخام من حقول الحسكة ودير الزور، بصهاريج إلى مصافي التكرير في حمص وبانياس، وذلك ضمن صفقة معدلة على تلك التي كان قد أبرمها النظام السابق، وبما يتضمن توريد 15 ألف برميل (من إجمالي حوالي 100 ألف برميل يومياً)، فضلاً عن مليون متر مكعب من الغاز.
سيطرة الحكومة
ومن شأن اتفاق الاندماج الأخير أن يتيح للسلطات الحكومية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، السيطرة على حقول النفط، وبما يشكل بوابة إنعاش للاقتصاد السوري الذي يواجه تحديات جسيمة بعد عقود من الدمار، وبعد تهاوي الإنتاج النفطي من 400 ألف برميل (بين 2008 و2010) إلى أقل من 15 ألفاً في 2015 (وفق بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية). ومن 30 مليون متر مكعب من الغاز قبل الثورة إلى نحو 10 ملايين، وهو ما يقل كثيراً عن الاحتياجات المحلية لتوليد الكهرباء والمقدرة بـ 18 مليون متر مكعب يومياً.
ومن المتوقع أن يفتح هذا الاتفاق الباب أمام إعادة تأهيل الحقول النفطية والغازية في مناطق سيطرة “قسد”، ما يسمح بزيادة الإنتاج تدريجياً، خاصة في حقول دير الزور والحسكة الغنية بالموارد. كما أن دمج هذه المناطق تحت مظلة الدولة يعزز مناخ الاستثمار، إذ قد يشجع الشركات المحلية والإقليمية – وربما حتى الشركات الدولية في حال تحسن البيئة السياسية – على الدخول في مشاريع تطوير البنية التحتية، سواء عبر إعادة تأهيل الآبار المعطلة أو تحديث شبكات النقل والتوزيع.
وعلى المستوى الاقتصادي، يمثل الاتفاق خطوة محورية نحو تعزيز الإيرادات الحكومية، حيث من المتوقع أن تسهم زيادة الإنتاج النفطي والغازي في تقليص العجز التجاري، وتوفير موارد لتمويل مشروعات إعادة الإعمار. كذلك، فإن وضوح الإطار القانوني والإداري لهذه المناطق بعد الاتفاق قد يشجع رجال الأعمال والمستثمرين على ضخ رؤوس أموال في مشاريع الطاقة، بما يعزز فرص التشغيل ويحفز الحركة الاقتصادية، خاصة في المحافظات الشرقية التي عانت طويلاً من العزلة والتهميش.
في الوقت ذاته، يفتح الاتفاق آفاقاً للتعاون مع الدول الحليفة لدمشق، سواء عبر اتفاقيات تطوير البنية التحتية الطاقوية أو تمويل مشاريع استخراج ومعالجة النفط والغاز، وهو ما قد يعيد رسم الخريطة الاقتصادية في شرق سوريا، ويخفف من حدة أزمة الطاقة التي تلقي بظلالها على مختلف القطاعات الإنتاجية في البلاد.