تبدو فكرة وصول رسالة عبر البحر رومانسية وسينمائية للغاية، إذ يعتقد بعضهم أن احتمالات حدوثها نادرة، ويتساءلون كيف يمكن أن تصل الرسالة سليمة دون أن تُكسر أو تَعلق بين الشّعاب المرجانية، أو حتى تغوص في قاع المحيط؟
رُميت الرسائل في البحر لأسباب مختلفة، فقد اعتبرها الفيلسوف اليوناني ثيوفراستوس عام 310 قبل الميلاد اختباراً لنظريته، التي تُشير إلى أن المحيط الأطلسي يتدفق إلى البحر الأبيض المتوسط، أيضاً أَرسل البشر الرسائل ليُعبروا عن حزنهم، أو لطلب النجدة، أو فقط لإشباع فضولهم هل سَيعثر أحد على رسائلهم أم لا؟
كذلك التواصل بين من نجهل من البشر يعد مغامرةً مثيرة، وفي هذا التقرير نستعرض معاً رحلة بعض الرسائل ونجاتها من البحر:
رسالة حُب من الحرب العالمية الأولى
عَثر الصياد ستيف غوان عام 1999 على زجاجة عالقة في شبكة صيده، تحتوي على رسالتين، كُتبتا بتاريخ، 9 سبتمبر/أيلول عام 1914، من الجندي توماس هيوز، تَطلب الرسالة الأولى من الشخص الذي يعثر على الزجاجة إيصال الرسالة الثانية إلى زوجته إليزابيث.
كانت رسالة توماس لزوجته قصيرة، لكنها تُظهر أنه يتذكرها، وهو في طريقه إلى فرنسا للقتال في الأيام الأولى من الحرب العالمية الأولى، يقول فيها: “زوجتي العزيزة، أكتب هذه الرسالة على القارب وسَألقيها في البحر فقط لأعرف إذا كانت سوف تصل إليكِ أم لا، إذا وصلت اكتبي وقت وتاريخ الاستلام واحتفظي بها جيداً. قد كتبت اسمك وعنوانك، وداعاً في الوقت الحاضر.. زوجك المُحب”.
وتوفي توماس بعد يومين من كتابة الرسالة، ولم يتمكن من رؤية زوجته وطفلته الرضيعة مرة أخرى.
شَعر ستيف أن على عاتقه مسؤولية تسليم الرسالة، مع يقينه من وفاة إليزابيث، إلا أنه بدأ البحث عن ذريتها، وسرعان ما علم أن إيميلي، ابنة توماس وإليزابيث هيوز، لا تزال على قيد الحياة في مدينة أوكلاند بنيوزيلندا.
عَرضت صحيفة The New Zealand Post على ستيف أن تَتكفل برحلته هو وزوجته ليُسلم الرسالة لإيميلي، التي لم تعرف والدها، مع أنها تربت وهي تستمع إلى قصص عنه من والدتها، والاعتزاز بالميدالية التي حازها بعد وفاته.
تقول إيميلي عندما تسلمت الرسالة: “مَلأت الرسالة حياتي وجعلتها ذات معنى، أَثرت فيَّ بشدة، وأعتقد أن والدي فخور الآن لوصول الرسالة، فقد كان رجلاً عطوفاً جداً”.
40 عاماً من الصداقة بسبب رسالة
سَافرت ساندرا موريس، وهي تبلغ من العمر 8 سنوات في شهر يوليو/تموز عام 1968، إلى عطلة في أوروبا مع عائلتها، وفي طريق العودة عَبر إحدى السفن إلى منزلها بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، كتبت ساندرا رسالة ترجو فيها من يجدها أن يُراسلها على العنوان المُرفق، وضعت الرسالة في زجاجة نبيذ فارغة، وألقتها في أمواج المحيط الأطلسي.
بعد ثلاثة أشهر من العام ذاته، كانت تسير روزاليندا هاريس ذات الثمانية أعوام ممسكة بيد والدها على شاطئ ويلز في المملكة المتحدة، ووجدت زجاجة النبيذ، وبدأت المُراسلة مع ساندرا حتى الآن.
تقول روزاليندا: “استمرت صداقتنا وتوطدت عبر مرور الأزمنة واختلافها، فانتقلت مراسلتنا من البحر إلى البريد الإلكتروني، مروراً بالبريد الجوي”. وتُضيف “نَمت صداقتنا من خلال رسائلنا، أيضاً تشاركنا حياةً متوازية بشكل مُثير للدهشة، فكل منا لديه طفلان، صبي وفتاة”.
التقت الصديقتان لأول مرة عام 1976، ثم تعارفت العائلتان عام 2000، وارتبط أبناؤهما بصداقة قوية معاً، وفي ذكرى صداقتها الأربعين، اجتمعت العائلتان معاً في مدينة ويلز، والتقطت روزاليندا وساندرا صورة، حيث بدأت صداقتهما غير العادية في المكان الذي وجدت “روزاليندا” فيه الرسالة.
الإعصار يعيد ذكرى طفولة فتاة متوفاة
عَثر عامل نظافة عام 2012 على زجاجة خضراء ملقاة على ساحل مدينة لونغ آيلاند في الولايات المتحدة الأميركية، تحتوي على رسالة بداخلها، ظهرت الزجاجة جراء إعصار ساندي المدمر، الذي أصاب الساحل الشرقي للولايات مما أدى لتدافع العديد من الحطام وأكوام من القمامة على الشاطئ.
أَوصل العامل الرسالة لمُشرفه في العمل ووجد فيها جملة مُقتبسة من أحد الأفلام تقول “كن ممتازاً لنفسك يا صديق” وكُتب خلفها رقم هاتف.
عندما قام المشرف بالاتصال بالرقم وجد أن صاحبة الرسالة “سايدوني فيري” كتبتها منذ عشرة أعوام، ولكنها توفيت منذ عامين في حادث في إحدى المدارس الداخلية في السويد.
استقبلت والدة سايدوني وأصدقاؤها الرسالة بحنينٍ غامر وقاموا بتَذكرها في مكان العثور على الرسالة والوقوف على الرمال الرطبة مُتحدثين عنها وعن حياتها أيضاً، رموا أزهار القرنفل في موجات البحر.
يَقول أحد أصدقاء سايدوني، ويُدعى فان غاستل إنها كانت تخبره دوماً أن كل شيء سيكون على ما يرام ولا داعي للقلق، وأن رسالتها التي عُثر عليها في الزجاجة سَتستمر بتذكيره بذلك في كل يوم حتى بعد رحيلها.
رسالة وداع من تايتنيك
غَرِقت سفينة تايتنيك، فجر 15 أبريل/نيسان عام 1912، وما زالت حكايات أصحابها مُغلفة بالفضول إلى الآن، الشابان إرميا بيرك، 19 عاماً، وابن عمه نورا هيجارتي، 18 عاماً، من مدينة كورك في أيرلندا رَكِبا سفينة التايتنيك لِيَلحقوا بعائلتهم التي استقرت في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة منذ عدة سنوات.
قبل سفر بيرك ودَّعته والدته وأهدته زجاجة تحتوي ماءً مقدساً، عندما شعر بيرك بغرق السفينة كتب رسالة أودعها تلك الزجاجة يقول فيها “من تيتانيك، وداعاً كل شيء، “بيرك” من كورك”، ولم ينج ابنا العم من الغرق.
ظَهرت الزجاجة التي تحوي رسالة بيرك على شاطئ البحر في مدينته على بعد عدة أميال من منزله بعد عام من غرق السفينة، وللأسف توفيت والدته حزناً قبل العثور على الرسالة.
بَقيت الرسالة إرثاً عائلياً تحتفظ به عائلة بيرك لقرنٍ من الزمان، حتى تَبرع بها أحفاد العائلة عام 2011 إلى مركز التراث، وأصبحت جزءاً من معرض تيتانيك جنباً إلى جنب مع الميداليات والصور العسكرية، وبعض الآثار من السفينة المنكوبة.
أمنية طفل تتحقق بعد 11 عاماً
طَلب أحد الأطفال من والدته أن تُفِرغ زجاجة كاملة من الفانيليا ليكتب داخلها رسالة يقول فيها: “اسمي جوش بيكر عمري 10 سنوات. إذا وجدت هذه الرسالة؛ ضَعها على نشرات الأخبار، والتاريخ هو 16 أبريل، 1995”.
وضع جوش الرسالة في الزجاجة، وأَلقى بها في البحيرة البيضاء بولاية ويسكونسن.
بعد مرور سنوات، أتم جوش دراسته الثانوية، ثم انضم لقوات المُشاة البحرية، خَدم في حرب العراق ونجا من أخطار عديدة، ولكن بعد وصوله بفترة قصيرة إلى الولايات المتحدة توفي بشكل مأساوي في حادث سيارة، مما ترك عائلته وأصدقاءه يتساءلون لماذا توفي الآن؟
بعد بضعة أشهر من وفاة جوش، كان ستيف ليدر وروبرت دنكان، أصدقاء جوش، يَسيران على ضِفاف البحيرة البيضاء، عندما رأوا زجاجة تَسبح على سطح الماء.
ظَهرت رسالة جوش عام 2006 إلى أصدقائه وعائلته عندما احتاجوا إليها، شعرت والدة جوش كما لو أنه يَمُد يَده ويُساعدهم على تجاوز رحيله.
بالطبع تَحققت أُمنية جوش وظَهرت رسالته في الصحف والأخبار، تَحتفظ عائلته بالرسالة بمثابة تذكير دائم بأن ابنهم لا يزال معهم.
رسالة تُغير الحياة للأفضل
سَافرالزوجان دوروثي وجون بيكهام عام 1979 إلى هاواي، وخلال سفرهما قاما بكتابة رسالة وضعاها داخل زجاجة نبيذ فارغة، وألقياها في البحر، كَتب الزوجان في الرسالة من يجدها يُرسلها لهما مرة أخرى، وقاما بوضع دولار مع الرسالة لتغطية رسوم البريد.
تَلقى الزوجان رسالة، في 4 مارس/آذار 1983، من هوا فان نجوين، قال فيها إنه جندي سابق في الجيش الفيتنامي، وجد الرسالة هو وشقيقه الأصغر تطفو على بُعد 15 كيلومتراً من شاطئ مقاطعة سونغكلا في تايلاند، حيث سافرا في مياه المحيط الهادئ من أجل الهروب من النظام الشيوعي في فيتنام.
وأضاف نجوين، أنهما عندما رأوا الزجاجة، شعرا وكأن صلواتهما قد أُجيبت، إذ أعطتهما قوةً وأملاً ليستمرا بما يفعلان.
صُدم الزوجان بيكهام من الرسالة، إذ إن الزجاجة سافرت لمسافة تقرب لـ9000 ميل لمدة ثلاث سنوات من هاواي، كما يقول بيكهام، وهو محامٍ في مدينة لوس أنغليس “إن أكثر ما أثار إعجابه هو وزوجته أن نجوين كان هارباً من فيتنام وعاش لاجئاً في تايلاند، ورغم حياته الصعبة استخدم الدولار الذي وجده مع الرسالة ليُرسِل لنا، بدلاً من استخدامه ليُحضر أي شيء آخر كان في حاجة إليه”.
استمرت الرسائل بين نجوين وعائلة بيكهام، وشَعر الزوجان بالسعادة عندما تلقيا صورة من زفاف نجوين، ثم صورة طفله، وتَعاطفا مع رغبته لمنح أسرته حياة أفضل، وعندما سئل نجوين من بيكهام أن يساعده في السفر للولايات المتحدة لم يتردد، وبدأ في الإجراءات مع دائرة الهجرة والتجنيس في الولايات المتحدة الأميركية، لتسافر عائلة نجوين عام 1985 إلى منزلها الجديد في لوس أنغليس وتبدأ حياة أفضل.