“مدّة الحفل ساعتان من دون استراحة، والرجاء التفضّل إلى المقاعد”، يُذكر صوتٌ نسائي مُسجّل باللغات الثلاث. الطقس بديع، ولعلّها حرارة الحضور ووهج الأحباء جعلا الساهر متعرّقاً يمسح عن جبهته حرّ الجوّ. غنّى “عيد وحبّ”، وعلى الإيقاع العراقي تمايل الحاضرون، بعضٌ على مقعده وبعضٌ وقوفاً لفرط الحماسة. “لو إنتَ وياي الليلة، العيد بعيدين”، لا اكتفاء من قديمه المُترسّخ في الذكريات والآهات والمشاعر. ككلّ سنة، يُبدّل الجمهور أجندة القيصر. يُحضّر أغنيات، فيغيّر العاشقون مساراته. يصرخ أحدهم: “الحب المستحيل”، وآخر: “المحكمة”، وصرخاتٌ من كلّ اتّجاه: “ليلى. ليلى. غنِّ لنا ليلى”. لم يغنّها. “كيف أرضيكم جميعاً؟”، يتساءل مبتسماً. يحاول، ولا تكفي ساعتان لغناء روائعه بأسرها. كلّما فتح نافذة على الماضي، طالبه الحضور بتشريع الأبواب. طمّاعون بمن نحبّ. ولأننا نحبهم نريدهم لنا دائماً.
عاشقان متعانقان على مقعدين يشاءان لو يُستبدل المقعد بالحضن. تتكئ المرأة على كتف رجُلها، والساهر يغنّي “يا مساء الورد يا عصفورتي(…) ليتني أقدر أن أدخل في جلدكِ، صوتكِ، شعركِ أكثر. آه آه آه يا أيتها الأنثى التي لا تتكرر”. ولدى ارتفاع الأصوات المُطالبة بـ”المستبدّة”، يعلّق القيصر ممازحاً: “إنتَ جايب حبيبتك ومعانقها وتصيح بدّك المستبدّة. روق”. مرّة أخرى، تعلو الهيصة. فتخيّل لحظة غنّاها. “الويل لي يا مستبدة”. الويل للساهر، مُجمّل اللحظات، المُرتقي بالمرء إلى الغيمات، المُحرّض على قُبلة وعناق يختزلان سعادة العمر.
يلقي قصائده من دون موسيقى، والحضور صمتٌ صافٍ. صوتٌ يلاقي الليل ويتنزّهان معاً على ضفاف بحيرة حيث القمر في الأعالي مُشبّعاً بالاكتمال. “ماذا تسمّين هذا التشتّت؟ هذا التمزّق؟ هذا العذاب الطويل؟”. المكان ذهول بالرجل والحنجرة والكلمات. حين قرأ “لجسمك عطر خطير النوايا” والبيانو يبثّ عذوبة النغم، تراءت الحياة ممكنة لعظمة الكلمة واللحن والموسيقى. لولاها لاستحال العيش وأمسى الوجود خيبة.
معجبة ترفع الصوت علّه يصل: “إنتَ رائع!”، وأخرى تكاد تطير من على مقعدها، تلوّح بيديها وتصرخ: “كاظممممم”. تفاعلٌ رهيب بين القيصر وعشاقه، يحرّك فيهم الأعماق، يُخرجهم من ذواتهم إلى حيث الرقص والجنون وفوضى التعبير. غنّى الجماليات: “أشعر بالخوف من المجهول فآويني، وأشعر بالبرد فغطيني”، و”كيف سأنقذ نفسي من أشواقي وأحزاني”، و”أشهد ألا امرأة تجتاحني بلحظات العشق كالزلزال”. وإن أردتَ المزيد فيأتيك الصوت ساحراً: “سلام على جسد كالخرافة، يفتح كالورد أجفانه، ويختار عني فطور الصباح”، والمزيد المزيد: “اشربي شيئاً من الحلم معي، اشربي شيئاً من الوهم معي، اشربي شيئاً من الفوضى معي، واتركي الباقي عليَّ”. وحين غنّى “يا رايحين لبنان، ودّي لحبيبي سلام”، تحوّل ليل بيت الدين ثورة أفراح. لم تفته تحية رفيق الحبّ في القصيدة نزار قباني، وله علا تصفيق تقدير وإعجاب.
قلبٌ يحبّ الساهر فيكتب عنه، وهو فنّان راقٍ أنيق يستحقّ جميل الكلمات. الليل مع القيصر عميق، ما إن ينتهي حتى نترقّب اللقاء المقبل والدهشة المقبلة. الشبع مستحيل. الجوع عظمة الحبّ.