الدوحة – بزنس كلاس:
في اليوم الـ 75 للحصار الجائر الفروض على دولة قطر من قبل بعض الدول الخليجية ومصر، تبدو قطر غير متأثرة لا سيما اقتصادياً، إلا أن الحصار أسهم بتسريع وتيرة العمل على تحقيق الأمن الغذائي بالبلاد من مبدأ رب كل ضارة نافعة.
حيث لم يكن الأمر صعباً على الشركات المحلية -في قطاع الإنتاج الغذائي خصوصاً والاستهلاكي بشكل عام- التأقلم سريعاً مع انعكاسات وتداعيات الحصار الظالم المفروض على قطر منذ الخامس من يونيو الماضي.
فجأة ودون سابق إنذار، وجدت شركات الإنتاج الغذائي الوطنية نفسها أمام تحديات كبيرة لم تعتد عليها من قبل، ولم تكن محتاجة في أي وقت مضى إلى أن تعتاد عليها، أو أن تفكر حتى في أن يأتي وقت يتطلب منها المقدرة على مواجهة مثل هذه التحديات والتصدي لها.
فلم يكن في حسبان الشركات القطرية على الإطلاق أن «الغدر» يمكن أن يكون من شيمة «الأشقّاء» القريبين، والإخلاص والوفاء من شيمة الأصدقاء البعيدين!
لا يرتبط الأمر بأي تقصير من قبل الشركات القطرية والقطاع الخاص القطري في أنه كان يعتمد كثيراً في العديد من المنتجات والسلع والبضائع المختلفة على أسواق دول الحصار المجاورة، وإنما كان هناك ما هو أبعد من ذلك؛ فالقطاع الخاص القطري كان يعمل وفقاً لمعايير «الصناعة التكاملية» القائمة على أن يكون لكل طرف صناعة خاصة به تشكل له قيمة مضافة، ويزوّد الأطراف الأخرى باحتياجاتها من هذه الصناعة دون أن تقوم تلك الأطراف ببناء صناعات مماثلة لديها منافسة، أي أن تكمل الأطراف بعضها البعض، وأن تعتمد على بعضها البعض في توفير احتياجاتها من المنتجات الغذائية والاستهلاكية وغيرها.
نقطة تحوّل
هكذا كان الأمر بالنسبة للشركات القطرية.. كانت تعتمد في كثير من المنتجات والسلع الاستهلاكية والغذائية على أسواق دول الحصار الخليجية، ليس لأن تلك الشركات غير قادرة على بناء مصانع ومشروعات وطنية تنتج تلك السلع، وإنما لأنها لا تريد أن تنافس أسواقاً شقيقة مجاورة، فتكتفي بالاستيراد منها لتلبية احتياجاتها، وهو ما يحقق ويجسّد بشكل فعلي التكامل الاقتصادي بين الدول.
لكن ما الذي حصل في الخامس من يونيو الماضي..؟
تغيرات
انقلبت كثير من الأمور رأساً على عقب، وتغيرت كثير من الأوضاع، ووجد السوق القطري نفسه معاقَباً دون ذنب اقترفه، ومحروماً قسراً من قبل الأشقّاء من منتجات وسلع ومدخلات إنتاج كان يستوردها ويعتمد على الأشقّاء في توفيرها طوال العقود الماضية.
لقد شكّل تاريخ 5 يونيو 2017 علامة فارقة لدى القطاع الخاص القطري ولدى الشركات الوطنية، أصبح هذا التاريخ بمثابة خط فاصل ما بين مرحلتين: ما قبل، وما بعد!
فمرحلة «ما قبل» انتهت إلى غير رجعة، وغير مأسوف عليها. أما مرحلة «ما بعد»، ففيها تكمن «الحكاية»، حكاية التحدي ومواجهة التحدي، وبدء مرحلة الاعتماد على الذات في تأمين الاحتياجات الأساسية للسوق القطري دون اللجوء إلى الخارج.
سياسات جديدة
لذلك، ومن هنا، بدأت معظم الشركات القطرية باعتماد وتنفيذ سياسات جديدة بخصوص توفير السلع والمنتجات الأساسية على الأقل محلياً.
فبعض هذه الشركات بدأ بزيادة إنتاجه إلى الطاقة القصوى، والبعض الآخر أخذ يبني مصانع وتوسعات وخطوط إنتاج جديدة تواكب المرحلة الحالية والتحديات التي تكتنفها، وبعض الشركات الأخرى اتجه إلى الاستيراد من الخارج لمنع حصول أي نقص لأي منتج في السوق القطري، فضلاً عن اتجاه شركات أخرى إلى الاعتماد ذاتياً على نفسها في ابتكار منتجات جديدة تعوّض المستهلكين عما فقدوه من توقف صادرات دول الحصار إلى السوق القطري.
وبالنظر إلى النتائج والمعطيات على الأرض خلال فترة الشهرين الماضيين، يتضح أن الشركات الوطنية نجحت في التحدي وبامتياز، وبرهنت داخلياً وللمنطقة والعالم أجمع أنها شركات قوية وتستطيع تحمّل مسؤولياتها وواجباتها تجاه الوطن وتجاه متطلبات واحتياجات السوق القطري.أحد كبار رجال الأعمال القطريين، فضّل عدم ذكر اسمه، ضرب مثلاً على مدى اعتماد الشركات القطرية على أسواق الدول المجاورة الذي كان سائداً طوال سنوات ما قبل الحصار.
يقول: «كنا نعتمد على السوق السعودي إلى درجة كبيرة، حتى أن هناك مادة كيماوية دقيقة جداً تدخل في صناعة عبوات المياه البلاستيكية، بدونها لا يمكن صناعة تلك العبوات بأي حال.. هذه المادة كنا نستوردها من السعودية؛ لأنه لا يوجد أي مصنع محلي لها في قطر».
الأسواق العالمية
يضيف رجل الأعمال قائلاً: «عندما بدأ الحصار على قطر وأُغلقت الحدود، توقّف تصدير هذه المادة، وكادت مصانع المياه المعدنية في قطر تتوقف عن العمل، لولا الاتجاه فوراً إلى الأسواق العالمية لاستيراد هذه المادة». لذلك يقول رجل الأعمال: «إن الحصار أفادنا كثيراً، الآن لن تكون هناك عودة إلى الماضي، لن نعتمد على سوق واحد أو سوق معين في كل شيء؛ فالدرس كان قاسياً جداً. فعلى مستوى هذه المادة فقط، سيكون هناك استثمارات قطرية للقطاع الخاص لبناء مصانع جديدة تقوم بصناعة هذه المادة حتى لا نعتمد على الخارج، سيكون اعتمادنا فقط على أنفسنا وليس على أي سوق آخر».
وليس هذا فحسب، فقد دفع الحصار شركات القطاع الخاص القطرية العاملة في مجال التصنيع الغذائي والاستهلاكي إلى الإعلان عن توسعات جديدة تواكب تنامي الطلب المحلي على منتجاتها.
فمثلاً شركات الإنتاج الزراعي أعلنت عن ضخّ استثمارات جديدة لتعزيز الإنتاج الزراعي في قطر، وتوفير مزيد من أصناف الخضراوات والفاكهة في السوق المحلي، وخصوصاً تلك التي كانت تُستورد من الخارج.
الاكتفاء الذاتي
ومن هذه الشركات «العالمية لتطوير المشاريع»، التي أعلنت عن بناء بيوت زراعية جديدة بمساحات يصل حجمها إلى 20 ألف متر مربع، علماً أن لدى الشركة حالياً مشاريع للإنتاج الزراعي العضوي، تبلغ مساحاتها نحو 120 ألف متر مربع، تنتج مختلف أصناف الخضراوات والفاكهة، مثل الكوسا والخيار والبندورة والباذنجان والفطر والبطاطا والخس والفلفل بأنواعه.
ولدى «العالمية لتطوير المشاريع» مصنع حديث لمشتقات اللحوم، بدأ ينتج بكامل طاقته، فضلاً عن قيام الشركة بتسريع عمليات بناء مصنع آخر للأسماك لديها، لكي يدخل في طور الإنتاج خلال أقرب وقت.
الطلب
كما أعلنت معظم شركات صناعة الألبان المحلية عن زيادة طاقاتها الإنتاجية، لمواكبة الطلب الكبير في السوق المحلي، مثل الشركة العربية القطرية لإنتاج الألبان (غدير)، وشركة روعة للألبان، وشركة المها، وشركة ألبان داندي قطر، وشركة بلدنا.
وغير هذه الشركات، قامت العديد من مصانع إنتاج البيض والدواجن واللحوم بزيادة طاقاتها الإنتاجية إلى معدلات كبيرة.
الأمر الأهم من هذا كله، أن الحصار لعب دوراً كبيراً في بلورة تفكير جديد لدى القائمين على شركات الإنتاج الغذائي في قطر، بأن يكون هناك مشروع وطني طموح لتحقيق الاكتفاء الذاتي، على الأقل من المنتجات الغذائية الأساسية، وأن يُستغنى نهائياً عن الاستيراد من الخارج في هذا القطاع الحيوي.