هل تعلم بأنك تسهم بإثراء عدة شركات محتكرة كلما طرحت سؤالاً على “تشات جي بي تي”؟ لا يختلف الأمر كثيراً عند استخدام أي من منافسيه، إذ تعتمد جميعها تقريباً على رقائق من شركة “إنفيديا” التي تُسيطر على مبيعات نحو 92% من مكوّنات متخصصة، تُسمى مسرّعات الذكاء الاصطناعي وهي التي يعتمد عليها تشغيل روبوتات الدردشة.
تعتمد “إنفيديا” بدورها على ثلاثة شركاء لإنتاج أشباه الموصلات، وهي شركات “إس كيه هينكس” (SK Hynix) الكورية الجنوبية و”تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشرينغ” (TSMC) و”إيه إس إم إل” (ASML Holding) الهولندية. ولكل منها مكانة سوقية لا تقل منعةً عن مكانة “إنفيديا”، إن لم تفقها.
في كثير من القطاعات، كانت هيمنة كهذه تستدعي تدخل هيئات مكافحة الاحتكار ولتهدد بتفكيك مثل هذه الشركات. لكن في قطاع التقنية، لطالما ساد تقبل أن الابتكارات المهمة قد تؤدي لهيمنة بعض الشركات على الأسواق فتتربع على عرشها لسنوات، مدعومةً باقتصاد الحجم.
سبق أن شهدنا هذا مع الحواسيب المركزية والشخصية ومتصفحات الويب ومحركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي وأنظمة تشغيل الهواتف الذكية.
حتى حين انهارت بعض الاحتكارات السابقة، غالباً ما وقع ذلك نتيجة لإطاحة منافساتها بها، وليس بفعل تفكيك الهيئات الرقابية الحكومية لها كما حدث لشركة “ستاندرد أويل”.
وقد تواجه شركات الذكاء الاصطناعي لحظة تحول شبيهة بظهور جهاز “أيفون”، بحيث تطيح ابتكارات جديدة بالشركات المهيمنة بين ليلة وضحاها. كما قد يفشل الذكاء الاصطناعي في تحقيق النقلة الاقتصادية الموعودة، ما يضع حداً لهذا السباق المحموم. لكن راهناً، ما تزال احتكارات الذكاء الاصطناعي تتصدر المشهد.
لم يسبق في التاريخ أن كان كل هذا الكمّ الهائل من الأموال مرهوناً بما سيؤول إليه ابتكار ما. فقد تجاوزت القيمة السوقية المشتركة لشركة “إنفيديا” وشريكاتها الثلاث الرئيسيات 4 تريليونات دولار حتى منتصف مارس، وقد شكلت “إنفيديا” وحدها 6% من قيمة مؤشر “ستاندرد آندر بورز” للأسهم الرائدة في الولايات المتحدة، فيما تتصدر شركتا (TSMC) و”إيه إس إم إل” قائمة الشركات الأعلى قيمة في بلديهما. تعتمد هذه التقييمات أساساً على اعتقاد بأن هذه الشركات ستواصل سيطرتها على هذه السوق المتنامية لسنوات.
مع ذلك، أثبتت فورة الذكاء الاصطناعي أنها متقلبة وفوضوية، فيما ينفق منافسو “إنفيديا” ثروات طائلة لتطوير رقائق قادرة على منافسة منتجاتها سرعةً وموثوقيةً.

كيف بدأ الذكاء الاصطناعي؟
اشتهرت “إنفيديا” على مر عقود بمُنتجات مرتبطة بألعاب الفيديو لا الذكاء الاصطناعي، إذ تركزت أعمالها على تصميم وحدات معالجة الرسومات، وهي مكونات تولّد صوراً واقعية في ألعاب مثل “كول أوف ديوتي” (Call of Duty).
تعتمد هذه الوحدات على الحوسبة المتوازية، وهي تقنية تُتيح التشغيل المتزامن لعدة معالجات لحل مشكلات حسابية متعددة بسرعة تفوق الحواسيب التقليدية. لكن قبل نحو عقد، أدرك باحثون ذوو عقلية ريادية أن هذه الرقائق مثالية للتعلم العميق، وهو نوع من الحوسبة يحاكي آلية عمل الدماغ، وأصبح لاحقاً أساس طفرة برامج الدردشة مثل “تشات جي بي تي”.
راهن رئيس “إنفيديا” التنفيذي جنسن هوانغ مبكراً على بعض أولئك الباحثين، فقدّم في 2016 مجموعة رقائق بقيمة 129000 دولار إلى شركة “أوبن إيه آي” الناشئة غير الربحية حين كانت مجرد مختبر صغير.
قال جيسون فورمان، أستاذ سياسات الاقتصاد في جامعة هارفرد: “في البداية، كان الأمر أقرب إلى الصدفة، لكنهم استغلوا تلك الصدفة بذكاء شديد”.
كانت “إنفيديا” قد طوّرت حينذاك مكتبة برمجية متكاملة لاستخدام رقائق وحدات معالجة الرسومات، تعتمد على لغة برمجة تُسمى الهندسة الموحدة لحوسبة الأجهزة، وأصبحت الوسيلة الحصرية للاستفادة من رقائقها في هذا النوع الجديد من الحوسبة.
نظراً لاعتياد عدد كبير من مهندسي الذكاء الاصطناعي على استخدام الهندسة الموحدة لحوسبة الأجهزة، لم تتمكن الرقائق البديلة، التي طورتها شركات ناشئة ممولة بسخاء، وحتى “جوجل”، من تحقيق اختراق يُذكر في السوق. حتى أن “إنتل” التي كانت يوماً رائدة صناعة الرقائق، لم تستطع مجاراة المنافسة.
في 18 مارس، كشف هوانغ عن أحدث مجموعة من رقائق “إنفيديا” الأقوى، إلى جانب البرمجيات المتصلة بها، تحت اسم “دينامو” (Dynamo)، ووصفها بأنها “نظام تشغيل مصنع الذكاء الاصطناعي”.
كيف تعمل رقائق إنفيديا؟
لكي تعمل رقائق وحدات معالجة الرسومات من “إنفيديا” بكفاءة، تحتاج إلى شريحة ذاكرة قوية، وهي دائرة متكاملة تحتفظ بالبيانات أثناء معالجتها. ولهذا الغرض، تعتمد “إنفيديا” على شركة “إس كيه هينكس” الكورية، ولها نحو 80% من سوق الذاكرة ذات النطاق الترددي العالي الأقوى في هذا المجال.
لطالما طغت “سامسونغ” على “إس كيه هينكس” في السوق الكورية المحلية. لكن في 2019، ابتكر مهندسو “إس كيه هينكس” طريقة جديدة لتغليف رقائق الذاكرة المستخدمة في معالجة البيانات الضخمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي، بما يحول دون احترارها، ولم تتمكن “سامسونغ” من اللحاق بها حتى الآن.

تصمم “إنفيديا” رقائق وحدات معالجة الرسومات، وهي لا تصنّعها بنفسها كما أنها لا تملك أي مصنع، فهي تُعهّد التصنيع إلى (TSMC) المتخصصة في تصنيع الرقائق بناءً على تصاميم شركات أخرى. ابتكرت (TSMC) نموذج أعمال التصنيع حسب الطلب هذا، ومن حينها، صقلت قدراتها التصنيعية حتى تفوقت على منافساتها بأشواط.
نجحت (TSMC) في اختراق السوق في 2013، حين تحولت “أبل” للاستعانة بها بدل “سامسونغ” لتصنيع مكوّنات أجهزة “أيفون” و”أيباد”. وقد حاولت “إنتل” و”سامسونغ” لسنوات دون جدوى كسر قبضة (TSMC) الفولاذية على صناعة الرقائق تحت الطلب. وأعلنت (TSMC) العام الماضي أنها تصنع 99% من مسرّعات الذكاء الاصطناعي عالمياً.
مع ذلك، هي ليست أكبر شركة محتكرة في عالم الذكاء الاصطناعي. فهذا التميز من نصيب شركة “إيه إس إم إل” الهولندية الفخورة بهوسها في التقنية، وتتخذ في مدينة فيلدهوفن مقراً لها. إن “إيه إس إم إل” هي الشركة الوحيدة في العالم التي تنتج الآلات الأكثر تطوراً لصناعة الرقائق، وتعتمد عليها (TSMC) وغيرها من مصنعي أشباه الموصلات وفقاً لمواصفات “إنفيديا” و”أبل”.
آلات للطباعة باستخدام الأشعة فوق البنفسجية الشديدة، التي تنتجها “إيه إس إم إل” ويفوق كل منها حجم حافلة، باهظة الثمن إذ تُباع بحوالي 380 مليون دولار. ويستبعد الكثيرون في القطاع أن تستطيع أي من منافساتها أن تضاهيها في المستقبل القريب.
تنفي هذه الشركات عموماً تهم الاحتكار، وبخاصة تصويرها على أنها بلغت مكاناتها المهيمنة جوراً أو أنها تمنع المنافسة. قال متحدث باسم “إنفيديا” إن الشركة تتنافس مع “الموردين التجاريين” ومقدمي خدمات الحوسبة السحابية وشركات الذكاء الاصطناعي. أضاف: “يُقدّر العملاء حلولنا الشاملة ويثمّنون وجود (إنفيديا) في كل سحابة وعلى الأرض لجميع الشركات”. وقد رفضت كل من (TSMC) و”إس كيه هينكس” و”إيه إس إم إل” التعليق.

هل الأمر يتعلق باحتكار في مجال الرقائق؟
من حيث الحصة السوقية، نعم. يختلف تعريف الاحتكار حسب القطاع، لكن امتلاك حصة تتجاوز 70% يُعد عموماً احتكاراً في حال وجود عوائق تمنع دخول المنافسين إلى السوق.
لكن ما إذا كانت هذه الشركات تتصرف كاحتكارات تقليدية، فهذا شأن آخر. تصبح الاحتكارات مقلقةً عندما تستغل هيمنتها، فتفرض أسعاراً أعلى على العملاء مثلاً. صحيح أن أسعار الرقائق ترتفع، فقد وصلت أسعار وحدات معالجة الرسومات من “إنفيديا” إلى 90000 دولار للوحدة خلال العامين الماضيين. كما تمكنت “إس كيه هينكس” وغيرها من مصنّعي المكونات الأساسية من رفع أسعارها، ويُعزى قدر كبير من ذلك إلى قلة أو انعدام البدائل المتاحة.
ينعكس غياب المنافسة هذا بوضوح في النتائج المالية. فقد تجاوز هامش الربح الإجمالي لشركة “إنفيديا”، أي نسبة الإيرادات المتبقية بعد خصم تكاليف الإنتاج، 70%. وهذه نسبة مرتفعة جداً حتى لقطاع التقنية، الذي تكون هوامش شركاته أعلى ممّا هي عليه في القطاعات الأخرى. تلي “إنفيديا” مرتبةً مع فارق شاسع مُنافستها “أدفانسد مايكرو ديفايسز” (Advanced Micro Devices)، وهامش ربحها حوالي 50%.
نظرياً، يمكن للشركات التي تضطر لشراء رقائق مكلفة أن تحمّل التكاليف للمستهلكين عبر زيادة أسعار خدمات الذكاء الاصطناعي، مثل “تشات جي بي تي” أو “مايكروسوفت كوبايلوت”، لكن ذلك لم يحدث بعد. حالياً، يبدو أن عمالقة وادي السيليكون، وهم من يستهلكون وحدات معالجة الرسومات، مستعدون لتحمّل التكاليف الضخمة للحوسبة ليحافظونا على ريادتهم في مجال الذكاء الاصطناعي.
يذهب جلّ إنتاج “إنفيديا”، الذي يشكل نحو 41% من إيراداتها، إلى أربع شركات هي “مايكروسوفت” و”جوجل” و”أمازون” و”ميتا”، بحسب تحليل بلومبرغ لسلسلة الإمداد. وقد أبلغت جميع هذه الشركات مستثمريها بأنها لا تستطيع جمع وحدات معالجة رسومات كافية وافية لتبني مراكز بيانات تكتظ بهذه الوحدات لتلبي الطلب المتزايد على الذكاء الاصطناعي. كما لم تدّر الوحدات التي حصلت عليها حتى الآن عائداً كافياً على استثماراتها في مجالات الحوسبة السحابية والإعلانات. مع ذلك، يبدو المساهمون مستعدين للانتظار بغرض تحقيق الربح المنشود.

لا يعني هذا أن العملاء راضون بهيمنة “إنفيديا” على السوق. فهم يخوضون سباقاً ليصنعوا رقائقهم، أقلّه لتخفيف اعتمادهم على خدمات الشركة. تعمل “أمازون” مثلاً على صنع رقائق مصممة بما يناسب حاجاتها، فيما تساعد “مايكروسوفت” شركة ” أدفانسد مايكرو ديفايسز” على التوسع نحو مسرعات الذكاء الاصطناعي.
كما ترسل “أوبن إيه آي” تصاميم رقائق إلى شركة “TSMC” لتنتجها لصالحها فتتمكن من تخطي “إنفيديا”. في ظل هذا الواقع، يصبح خطراً على “إنفيديا” أن تغضب كبار عملائها بالمبالغة في أسعار منتجاتها.
صحيح أن موردي “إنفيديا” ربما يملكون حصصاً سوقية مهيمنة، لكن هذا لا يعني أنهم يملكون بالضرورة قوةً احتكارية. على سبيل المثال، كانت “إس كيه هينكس” تقريباً المورد الوحيد لأحدث رقائق (HBM3E) لمعظم 2024. لكن في الوقت ذاته، كانت “إنفيديا” أهم عميل لها بفارق كبير عمّا سواها، ما يجعل ميزان القوى أكثر توازناً.
لكن “سامسونغ” و”مايكرون تكنولوجي” (Micron Technology) الأميركية، منكبتان على إنجاز رقائق منافسة، لذا لم يكن لدى “إس كيه هينكس” حافز لفرض أسعار مبالغ فيها على “إنفيديا”. تلقت “سامسونغ” و”مايكرون” لاحقاً موافقة “إنفيديا” على رقائق (HBM3E) التي أنتجتاها.
هل يمكن للاحتكارات أن تدوم في مجال التقنية؟
تدوم الاحتكارات في قطاع التقنية لوقت طويل عادةً. كانت شركة “آي بي إم” تهيمن على البطاقات المثقبة المستخدمة في الحواسيب القديمة، لدرجة اضطرت الحكومة الأميركية إلى رفع دعاوى مكافحة احتكار ضدها في 1932 و1952. وعندما ظهرت الحواسيب الكبيرة، فُتحت تحقيقات ضد “آي بي إم” مجدداً في 1967 بتهمة انتهاك قوانين الاحتكار.
مع انتشار الحواسيب الشخصية في الثمانينيات، كانت معظم الأجهزة تعتمد نظام تشغيل “ويندوز” من “مايكروسوفت” ومعالج “بنتيوم” من “إنتل”. وما يزال تحالف “وينتل” هذا، بين “ويندوز” و”إنتل” مهيمناً حتى اليوم. كما حافظت “جوجل” على ريادتها في مجال البحث عبر الإنترنت لأكثر من 20 سنة، بينما سيطرت “جوجل” و”أبل” معاً على أنظمة تشغيل الهواتف الذكية لأكثر من عقد.
يقرّ الباحثون الذين يدرسون أسباب صعود الاحتكارات في قطاع التقنية وهبوطها، بصعوبة إزاحة هذه الشركات. إن كبح الشركات المهيمنة في كثير من الأحيان يتطلب قوانين ناظمة صارمة ومنافسين أشداء. مثلاً، حين استهدفت الحكومة الأميركية “مايكروسوفت” تشتت تركيز عملاقة التقنية، على حد وصف مؤسسها المشارك بيل غيتس، فتمكنت “أبل” و”جوجل” من السيطرة على سوق الهواتف الذكية.
وفيما كانت “آي بي إم” تواجه قضايا الاحتكار، ارتكبت عدّة أخطاء في استراتيجيتها المتعلقة برقائق أجهزة الكمبيوتر الشخصية، فخسرت بالتالي أسواقاً رئيسية لصالح “مايكروسوفت” و”إنتل”، حسب راندال بيكر، الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو الذي يدرس الاحتكارات في مجال الحوسبة.
شركات فقدت الهيمنة بسبب الابتكار
في حالات أخرى، أطاح الابتكار بشركات راسخة مهيمنة. مثلاً، ظلّت “بلاك بيري” و”نوكيا” ألمع الأسماء في مجال الهواتف المحمولة، إلى أن أطلق ستيف جوبز، مؤسس “أبل” المشارك هاتف “أيفون”، وخسرت “مايكروسوفت” قبضتها على قطاع الحوسبة في الوقت نفسه.
ما يزال تحالف “وينتل” يسيطر على جزء كبير من سوق الحواسيب المكتبية، إلا أن المستهلكين والساسة والمحامين المتخصصين بقضايا المنافسة ما عادوا يكترثون به كما في السابق. قال بيكر: “الحاسوب الشخصي لم يعد أساسياً”.
لم تمض أكثر من ثلاث سنوات على احتكار “إنفيديا”، لكن قوى أخرى تعزز مكانتها في السوق، إذ تحاول مجموعة منافسين وعملاء وشركات ناشئة محاكاة وحدات المعالجة الرسومية أو إعادة اختراعها. هذا ليس مفاجئاً نظراً إلى الفرص التي ستحظى بها أي شركة تتمكن من وضع يدها ولو على جزء بسيط من نشاط “إنفيديا”.
تفتح سرعة تطور الذكاء الاصطناعي باب الفرص للشركات المرنة والمبتكرة لتستغل أي تراخٍ لدى اللاعبين الكبار. كما تُصعّب على الخبراء القانونيين كشف المناورات التي تهدد المنافسة. قالت لورا فيليبس-سويير، وهي أستاذة مساعدة في كلية الحقوق بجامعة جورجيا: “هذا مجال سريع جداً وأصبح أسرع اليوم”.
لدى “إنفيديا” حالياً الرقائق الأسرع ودعماً برمجياً قوياً وكذلك شبكة إمدادات وقنوات مبيعات راسخة. بالنسبة لشركات الذكاء الاصطناعي، شراء رقائق “إنفيديا” أمر بسيط نسبياً حين تكون متوافرة بكميات كافية. قال جيمي دوبورين، المؤسس المشارك لشركة البرمجيات الناشئة “تايتان إم إل” (TitanML): “إن شئت أن أشتري رقائق من صنع (أدفانسد مايكرو ديفايسز) لا أدري إلى من ينبغي أن أتوجه”.
لكن الشركات الكبرى في مجال الحوسبة السحابية التي تخطط لإيجاد بدائل لـ”إنفيديا” تملك موارد كافية لتهديد هيمنتها جدياً. كما أن إنتاج رقائق الذاكرة قد يصبح أكثر تنافسية في وقت قريب. وحتى (TSMC) التي تتفوق بأشواط على منافسيها، ليست بمنأى عن التهديد.
أشار ليب-بو تان، رئيس “إنتل” التنفيذي العتيد، إلى أنه سيواصل تنفيذ خطط الشركة الطموحة الرامية لإنتاج أشباه الموصلات لصالح شركات أخرى. من بين الأربع، قد تكون “إيه إس إم إل” الأشد منعة في وجه المنافسة، إذ لا توجد شركة أخرى تحقق تقدماً ملحوظاً في بناء ماكينات منافسة للطباعة باستخدام الأشعة فوق البنفسجية الشديدة.

قدوم “ديب سيك”
تلقت “إنفيديا” ضربةً موجعةً في يناير، بعدما كشفت الشركة الصينية الناشئة “ديب سيك” عن نموذج ذكاء اصطناعي منافس طورته بميزانية متواضعة. تراجعت قيمتها السوقية بعد الإعلان بنحو 600 مليار دولار خلال يوم. إذ أدرك المستثمرون أن هذا النموذج يعني وجود إمكانية لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي الرائجة حالياً دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة في العتاد.
عوّضت “إنفيديا” معظم خسائرها خلال الأسابيع التالية. فالاعتقاد السائد في السوق اليوم أن هذا النوع من برامج الذكاء الاصطناعي الأرخص، مثل “ديب سيك“، سيزيد الإقبال العالمي على خدمات الذكاء الاصطناعي والمعدات المرتبطة بها.
تأكيداً على ذلك، زادت كبرى الشركات إنفاقها على هذا المجال، إذ يعتزم مارك زوكربيرغ إنفاق 65 مليار دولار هذا العام على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وبناء مركز بيانات ضخم لدرجة أن مساحته توازي جزءاً كبيراً من منهاتن. كما تستعد “مايكروسوفت” و”جوجل” و”ميتا” وخمس من كبرى شركات التقنية العالمية لإنفاق 371 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي هذا العام، بزيادة 44% عن 2024، وفق تقرير حديث من بلومبرغ إنتليجنس.
من إحدى النواحي، يمكن لنموذج “ديب سيك” أن يعزز آفاق “إنفيديا”. فقد أفادت الشركة الصينية الناشئة أنها استخدمت رقائق “إنفيديا” الأقدم قليلاً بسبب القيود الأميركية المفروضة على تصدير التقنية إلى الصين. ومن بين الأمور القليلة التي صرح بها رئيس “ديب سيك” علناً، هو أنه ما كان ليستخدم مزيداً من هذه الرقائق لو كانت متاحةً.
لكن “ديب سيك” استخدمت أيضاً حلاً ذكياً قد يكون مشكلة لـ”إنفيديا”. فعند تدريب نموذج لغوي كبير، مثل “تشات جي بي تي”، يستخدم المطورون برامج لتنفيذ العمليات الحسابية وتمكين الشرائح داخل الكتلة من التواصل بينياً. وعادةً ما تحدث خطوات الحوسبة والتنسيق في أوقات مختلفة.
لكن “ديب سيك” أدخلت تعديلاً على تعليمات في برنامج “إنفيديا” المعروف باسم (PTX)، بما يتيح إنجاز الخطوات في وقت واحد، فتمكن النموذج من العمل بتزامن أثناء التدريب دون التأثير على السرعة. إذا كانت برمجيات الهندسة الموحّدة لحوسبة الأجهزة الخاصة بـ”إنفيديا” تشبه القيادة التلقائية، فإن تعديل (PTX) يشبه القيادة اليدوية. وقد رأى بعض المراقبين أن هذه الطريقة تؤشر إلى أن الشركات قد لا تحتاج إلى أحدث رقائق “إنفيديا” لتطوير نماذج تنافسية.
قال ناري سينغ، الشريك التنفيذي في شركة الاستشارات “أليكس بارتنرز” (AlixPartners) المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، إن مناورة “ديب سيك” على صعيد الخوارزميات “تسهم في تقليص الحواجز الضخمة التي تتحصن خلفها (إنفيديا)”. ومع ذلك، أشار إلى أن “إنفيديا” لديها متخصصو برمجيات كثر ويمكنها التكيف مع هذه التغييرات.
في المقابل، يرى بعض المتخصصين في الذكاء الاصطناعي أن تعديل “ديب سيك” على (PTX) يدعّم في الواقع مكانة “إنفيديا”، لأنه وقع ضمن مملكة برمجياتها. وثمة اعتقاد واسع بأن “ديب سيك” استغلت النماذج الموجودة أصلاً، مثل نموذج “جي بي تي” من “أوبن إيه آي” التي طُورت باستخدام موارد حوسبة ضخمة. أشارت “أوبن إيه آي” إلى أنها تحقق فيما إذا كانت “ديب سيك” قد استخدمت طريقة تُسمى “التقطير”، أي تدريب نموذج باستخدام مخرجات آخر. (تحقق الولايات المتحدة لتحري ما إذا كانت “ديب سيك” قد استخدمت شرائح أكثر تطوراً مما تقول).
هل سيتم تقسيم إنفيديا؟
مستبعد أن يتخذ مسؤولو مكافحة الاحتكار قراراً بتقسيم “إنفيديا” لمجرد هيمنتها الحالية، إذ يمكن اعتبار هذا التحرك ببساطة على أنه عقاب لشركة بسبب نجاحها. لذا يركزون على التحقيق في الطريقة التي بلغت فيها هذه القوة بهذه السرعة، وما إذا تخللت ذلك أي مخالفات.
باشرت وزارة العدل الأميركية تحقيقاً في 2024 عمّا إذا كانت “إنفيديا” قد قدمت مزايا تفضيلية على صعيد الإمدادات أو الأسعار إلى العملاء الذين وافقوا على شراء أنظمتها حصرياً أو كجزء من حزمة. إلا أن الشركة نفت هذه الادعاءات. كما طرحت الوزارة علامات استفهام حول استحواذ “إنفيديا” على شركة “ران: إيه آي” (Run:AI ) الإسرائيلية المتخصصة بتطوير برمجيات لإدارة شرائح الذكاء الاصطناعي.
قال دانيال هانلي، كبير المحللين في “معهد الأسواق المفتوحة”، وهي مؤسسة بحثية تنتقد شركات التقنية، إن الصفقة خطوة مألوفة تمارسها الشركات المحتكرة. عبر إنشاء حزمة خدمات تجعل وحدات معالجة الرسومات لديها أكثر فعالية، توجّه “إنفيديا” مزيداً من المشترين نحو منتجاتها وتقصي منافساتها عن السوق. واعتبر هانلي أن هذا يشبه “الحديقة المسوّرة” التي تمتلكها “أبل” عبر نظام “أيفون”. أضاف: “الظروف مهيأة للمعاملة التفضيلية”.
من جهتها، أكدت “إنفيديا” أنها تخصص إمداداتها المحدودة للعملاء بناءً على قدرتهم على استخدام المنتجات بسرعة. أضاف متحدث باسمها أن “إنفيديا” تجعل منتج “ران: إيه آي” مفتوح المصدر ومتاحاً مجاناً. حظي استحواذ “إنفيديا” على “ران: إيه آي” بموافقات في الولايات المتحدة وأوروبا، وتبدي الهيئات الناظمة الأوروبية صرامةً أكبر حتى في التعامل مع الاحتكار.
تتصدر قيادة أميركا لقطاع الذكاء الاصطناعي أولويات الرئيس دونالد ترمب الذي ضمّ إلى دائرة المقربين منهم بعضاً من قادة وادي السيليكون، ما يشير إلى أن اتخاذ أي إجراءات عقابية ضد شركة مثل “إنفيديا” لمجرد هيمنتها السوقية أمر مستبعد. التقى هوانغ الرئيس الأميركي الجديد في يناير، وأوضحت “إنفيديا” أنهما ناقشا “أهمية تعزيز القيادة الأميركية في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي”.

تسود ديناميكية مشابهة لدى (TSMC) و”إس كيه هينكس” و”إيه إس إم إل”، وهي شركات رائدة في دول تسعى للحفاظ على مكانتها في قطاع التقنية.
يُعزى تفوّق هذه الشركات بجزء كبير منه إلى حجمها الكبير وميزانيات البحث والتطوير الضخمة التي تملكها، بغض النظر عن أي مزاعم بشأن السلوكيات المانعة للمنافسة. يتطلب تصنيع الرقائق الإلكترونية تكاليف ضخمة. على سبيل المثال، أنفقت “إنتل” مليارات الدولارات لدخول سوق مسرعات الذكاء الاصطناعي، لكنها لم تحقق نجاحاً يُذكر.
ما يقلق الهيئات الناظمة المعنية بمكافحة الاحتكار هو أن تمنع رؤوس الأموال الضخمة اللازمة الشركات المنافسة المحتملة من دخول السوق. قالت فيليبس-سوير، أستاذة القانون: “قد يزيد ذلك الحواجز العالية ارتفاعاً”.
لكن يصعب إثبات أن ذلك استغلال للسوق إن لم يتوفر دليل قاطع على فرض أسعار احتكارية أو حزم منتجات. قال بيكر إن “(TSMC) تهيمن على السوق”، لكنه سأل: “هل فعلت شيئاً يناقض قواعد المنافسة؟ ليس على حد علمي”. ويعتبر أن الأمر نفسه ينطبق على “إس كيه هينكس” و”إيه إس إم إل”، و”إنفيديا”، مضيفاً: “جوهر نجاحها يتمثل بأنها فعلت الشيء الصحيح”.