تميز الدوري الإيطالي في حقب الثمانينات وحتّى بداية الألفية الجديدة باستقطاب النجوم وحصد الكئووس، كانت إيطاليا جنّة كرة القدم والمعنى الحقيقي لـ “حلم أي لاعب” بيد أن الأمور انقلبت رأسًا على عقبٍ مع تدشين الدوري الإنكليزي الممتاز أو ما يعرف بإسم “البريميرليغ” عام 1993 والذي منح أندية إنكلترا أموالًا طائلة جراء عقود البث الخيالية التي أبرمت آنذاك.
الأمر الذي جعل الهوة تتسع شيئًا فشيئًا بين الدوريين، حتّى وصل الحد لما هو قائم بالفعل الآن.. أو بالأحرى أهداف الفرق الإنكليزية كانت ضم لاعبي الكالتشيو، أمّا الآن فالضد هو الحاضر، ناهيك عن الفروق الكبيرة في البًنى التحتية وعوائد البث والرعاية والقدرات المالية، الأمور لم تعد كما كانت في السابق “إن كانت إنكلترا مهد كرة القدم، فإيطاليا جنّة كرة القدم” هكذا عقد مارادونا المقارنة.
في تقرير نشرته مؤخرًا مؤسسة “ديلويت” الأمريكية لأغنى 30 ناديًا في العالم، احتلت الأندية الإنكليزية نصف المقاعد تقريبًا (16) مع تصدر مانشستر يونايتد للقائمة، أندية ليستر سيتي، ويستهام، وساوثهامبتون كان ترتيبهم أفضل من ميلان، روما ونابولي.. بل أن الهابطان للتشامبيونشيب ستوك سيتي وويستبروميتش ألبيون مرتبتهما أعلى من بطل البرتغال بنفيكا الذي تذيل في المركز الـ30، يوفنتوس مثلا بالكاد دخل بين العشرة الأوائل (10)، الذين تضمنوا 6 أندية إنكليزية.
عقود الرعاية والاستثمارات الجمّة بالكرة الإنكليزية جعلت سقف الرواتب يرتفع بشكل مهول، وهو ما شكّل عامل جذب للاعبين، بغض الطرف عن تنافسية وقوة الدوري في الأساس والانجذاب الإعلامي الذي لا يُضاهى، فحتّى أكمام القميص باتت مصدر دخل للأندية عبر راعي الأكمام، مثال بسيط يمنحك انطباع عن مدى قوة البريميرليغ الاقتصادية الذي لاتتردد أنديته في دفع المبالغ الطائلة للتعاقد مع اللاعبين حتّى وإن كانوا لا يستحقون، وهو ما دفع صحيفة “ليكيب” الفرنسية عام 2015 إلى السخرية من إنفاق الإنكليز عندما تعاقد نيوكاسل مع فلوريان توفين المغمور من مارسيليا بمبلغ 17 مليون يورو عبر رسوم كاريكاتورية.
تلك القوة الشرائية قال عنها يوهان كرويف “لم أر حقيبة من النقود تحرز هدفًا” وهو ما يؤكد أن المال وحده لا يساوي شيء طالما لم يقترن بالمؤهلات الأخرى، تلك المؤهلات التي يتميز بها الطليان مع افتقارهم للمال، القوة الشرائية مَن جعلت فولهام الصاعد حديثًا للدرجة الممتازة يتعاقد مع هدف برشلونة السابق جان ميشيل سيري بمبلغ 30 مليون يورو، بينما جلب الصاعد الآخر وولفرهامبتون النجم الدولي البرتغالي جواو موتينيو من موناكو، أمّا ويستهام فقد تعاقد مع الأوكراني والذي لُقب بخليفة تشيفيتشكنو، أندريه يارمولينكو، أموال جمّة لا تناسب الإمكانيات، لكنها تناسب خزائن أندية إنكلترا.
المقارنة التي أشرت إليها في بداية الحديث، ما كانت إلا مقدمة بسيطة عن الموضوع الذي أرنو للالتفات إليه وهو نزوح نجوم اللعبة من إيطاليا إلى إنكلترا، بعدما كان السوق الفرنسي والمنتخب البلجيكي هما الوجهتان المحببتان لأندية إنكلترا، فجاء والتر ماتزاري مدرب واتفورد بالموسم قبل السابق ليتعاقد مع حفنة من لاعبي الدوري الإيطالي إضافة لبعض اللاعبين المتاحين قبل قدومه، لينتج توليفة إيطالية كان ابرزهم (وليس كلهم) زونيجا، أوكاكا، بريتوس، بيهرامي، هوليباس، نيانغ، زاراتي، و بيريرا.. لدرجة إطلاقي مصطلح “فريق الكالتشيو” على واتفورد.
وبالسنوات الأخيرة فقد الدوري الإيطالي بعض المواهب على غرار سانسوني، زازا، دارميان، ولوكاس فاسكيز لصالح الدوريات المنافسة وهو ما لم نعتد عليه من الطليان، الذين يركنون للحفاظ على لاعبيهم الصاعدين لإثراء الدوري الوطني عبر التنقل للكبار، ميلان، يوفنتوس، والإنتر.
الموسم الماضي شهد انتقال أنطونيو روديغير،إيمرسون بالميري، ودافيدي زابكوستا إلى صفوف تشيلسي من صفوف روما وتورينو على التوالي، ليس هذا فحسب بل ارتبطت أسماء غونزالو هيغواين، أليسيو رومانيولي، ماتيا كالدرا، ودانيلي روغاني بالبلوز الذي كان يدربه مدرب إيطالي، قبل أن يحل محله إيطالي آخر.. تاريخيًا أحرق نيرون روما، لكن الآن قد يحرقها الإنكليز -رياضيًا بالطبع-، عبر استنزاف اللاعبين موسمًا تلو الآخر.
أمّا هذا الصيف، فقد كانت الأمور أكثر اشتعالًا ومنذرة بالوعيد للكرة الإيطالية بعدما رحل المدرب ماوريسيو ساري صوب تشيلسي، ومن قبل كانت المفاوضات لجلب ماسيميليانو أليغري في خطوات متسارعة لاستقطاب خيرة المدربين الطليان، وليس فقط اللاعبين.
رحيل ساري خلّف آخر لجورجينيو الذي تبع مدربه نحو الشمال، إضافة لتعاقد ويستهام مع لاعب لاتسيو فيليبي أندرسون في صفقة قياسية بلغت قرابة 45 مليون إسترليني، نجم سامبدوريا الواعد الأوروغوياني لوكاس توريرا ناله الأمر فانتقل إلى أرسنال ليترك أثرًا كبيرًا على وسط السامب.
روما كان أكثر المتضررين من الانحراف في التسوق لأندية إنكلترا، رغم انتعاش خزينته بمبلغ 178 مليون يورو من بيع محمد صلاح، أليسون بيكر، روديغير وإيميرسون لليفربول وتشيلسي.. لكن السؤال الأهم هل باستطاعة أندية إيطاليا الاستفادة من تلك المبالغ في تقوية صفوفها وتدارك فقدان نجومها؟ الإجابة لربما كانت “إلى حد ما” فروما قام هذا الصيف بجلب أكثر من 12 صفقة تباينت بين الجيد والمتوسط وما يميزهم هو الحداثة في العمر وإمكانية التطوير،سنتحدث بالتفصيل لاحقًا عن الأمر.
لازالت إيطاليا تمتلك العديد من المواهب الكبيرة رغم هذا النزوح المفاجيء الذي لم تشهده الكرة الإيطالية مُطلقًا، فأندية يوفنتوس، ميلان، روما، والإنتر يمتلكون قاعدة رائعة من النجوم الصغار يتقدمهم دونّاروما ورمانيولي وبيرنارديسكي وغيرهم من نواة المنتخب الإيطالي في المستقبل بالأندية الأخرى كبيلوتي مثلًا.. فوز أحد أندية الكالتشيو ببطولة أوروبية هذا الموسم سيعزز من فرص بزوغ شمس سكوديتو من جديد وسيمثل عامل جذب للاعبين من الدوريات الأخرى، بما فيهم الدوري الإنكليزي الممتاز.
مشروع إنتر الجديد مع مجموعة “سونينغ” الصينية يبشر بالخير بعد ميركاتو هو الأفضل في إيطاليا، يوفنتوس أقوى مع رونالدو وعودة بونوتشي، نابولي بقيادة الداهية وصائد البطولات كارلو أنشيلوتي، روما رفقة الشراكة الناجحة بين العقل المدبر داخل الملعب إيزيبو دي فرانشيسكو والمدبر خارجه مونتشي، وحتّى ميلان مع قدوم هيغواين وكالدارا.. مؤشرات تنذر بالإيجاب للكرة الإيطالية في الموسم الجديد، والأهم هو صفقة رونالدو التي أعادت بعضًا من هيبة سكوديتو، وقد تتبعه أخرى لمودريتش صوب الإنتر، ومن يدري ماذا أيضًا؟