خلف الكواليس: في مانشستر

 

دخل حانته المفضلة التي كان قد اكتشفها مؤخراً في إحدى ضواحي مدينة مانشستر ،و التي أضحت ملاذه الخاص كلما شعر بحاجة للإبتعاد عن المحيطين به، مسحت عيناه المكان بسرعة لتؤكد له سريعاً خلو المكان من أي شخص مألوف، وعند اطمئنانه اتجه نحو البار وجلس في مكانه المفضل.

طلب شرابه المعتاد وأخذ يتأمل في الحاضرين مفكراً في نتائج الجولة الأخيرة وموقف الفريق الذي يدربه في سلم ترتيب الدوري الممتاز، وإذ به يلمح شخصاً مألوفاً يدخل الحانة وهو يتلفت حوله.

ارتسمت كل ملامح الدهشة على وجهه لرؤيته هذا الشخص بالذات، وسارع بإخفاء رأسه مديراً ظهره بسرعة حتى لايلمحه القادم، وبعد أن اطمأن لدخوله واستقراره علت ابتسامة خبيثة شفتيه.

أخذ نفساً عميقاً وهو يتأمل بذلك الشخص الذي انزوى في أحد أركان البار، و بدا له بقمة الضيق ولايرغب برؤية أحد هو الآخر، وفجأة شعر برغبة مفاجئة لأن ينضم إليه، وبدون أن تزاول الابتسامة شفتيه تحرك بخفة من مكانه واتخذ مقعداً بجوار رفيقه.

إلتفت إليه الأخير وبدا عليه شيء من الذعر والدهشة في البداية لم يلبث أن حل محلهما الضيق الواضح. ضحك صديقنا عند رؤيته ردة فعل رفيقه الواضحة التي لم يستطع إخفائها، وقال دون أن يمحي ابتسامته الساخرة التي اشتهر بها:

-على رسلك يا صديقي، أعتقد أنك قد ترغب ببعض الصحبة هذه الليلة.
تمتم جوارديولا بضيق ساخراً: أرجوك اجعل نفسك مرتاح.

تجاهل مورينيو نبرة السخرية، وطلب مشروبه المعتاد. ظلا صامتين لفترة، قبل أن يبادر مورينيو:

-لاتبدو الأمور سهلة كما كانت في الماضي ايه؟ أتذكر صولاتنا جولاتنا في أسبانيا وأوروبا؟

أومأ جوارديولا برأسه، متمنياً في نفسه أن تكفي إيمائته ليفهم رفيقه أنه لايرغب في الحديث، لكن ذلك لم يثني مورينيو من الإستطراد:

-لعلك تدرك الآن كيف أن الأمور تختلف هنا في إنجلترا، لقد حذرك الجميع أنها ليست أسبانيا أو حتى ألمانيا، إن المنافسات الأسبوعية هنا ضارية، حتى أصغر أنديتها لا ترحم.

تنهد جوارديولا مكتفياً بإرتشاف كأسه وإلتزام الصمت، لكن مورينيو الذي بدا متأثراً قليلاً بعدد الكؤوس التي تجرعها حتى الآن:

-أعتقد أنك تحتاج لمثل هذه الهزة في مسيرتك، صدقني. فعندما تنهض سوف تزال كل الشكوك التي صاحبتك منذ اليوم الأول، ولن يعود أحد ليتهمك بأي من الإتهامات المعتادة التي يغرقونك بها.

ابتسم جوارديولا للمرة الأولى، وهو يتذكر عناوين الصحف هذا الصباح، واسترجع في ذاكرته المقال المحبط الذي قرأه في الصحيفة. ثم قال أخيراً بشيء من التهكم:

-تتحدث إلي وتسدي النصائح وكأنك لاتقبع خلفي في سلم الترتيب.

ضحك مورينيو:

-أجل خلفك لكن عناوين الصحف لم تكف عن مدحي بعد الأداء الذي قدمه فريقي في ليلة الأمس. صدقني يا عزيزي أنا أعرف كيف تجري الأمور هنا، أن تتعثر ثم تنهض مجدداً ستغدو بطلاً، ثم إنك لم تتوقع حقاً أن تأتي وتسيطر بالطول والعرض على البطولة كما كان الحال في أسبانيا وألمانيا؟

-أنا توقعت بعض الصعوبات لكني لم أظن أن يخذلني اللاعبين هكذا. أعتقد أنك خبير في هذا المجال هه؟ وهؤلاء الإعلاميين القساة، تباً لهم. أنا أقدم لهم كرة ممتعة ستعيد لهم الهيبة في أوروبا، وكل مايفكرون به هو الإنتصارات المتتالية.

تجاهل مورينيو تلميحه الساخر قائلاً:

-فليذهبوا للجحيم جميعهم، لكن أليسوا هؤلاء رفاقك؟ لطالما كنت أنت المفضل لديهم بمثاليتك التي تظهرها أمام كاميراتهم. جميعهم منافقون يتملقونك مثل الكلب الذي ينتظر أن ترمي له بعظمة عندما تكون في القمة، وعند سقوطك يسارعون لجلدك بل والتباهي بتنبؤاتهم الكاذبة بسقوطك!

تنهد جوارديولا:

-حسناً ها قد سقطت أنا الآخر. كل ما أرغب فيه حقاً أن أقدم كرة قدم شجاعة، أن أجعل هؤلاء الصبيان يمارسون الكرة بعدالة.

قهقه مورينيو عالياً قبل يستجمع نفسه:

-يا عزيزي النتائج هي من ستعطيك العدالة المنشودة وليس الأداء! حان الآوان لتتعلم درسك يا صديقي!

علق جوارديولا

-تتحدث كأنك ربجت الجولة الأخيرة برباعية، لقد تعادلت يا عزيزي.

-أوه أجل أجل، لكنك لا تفهمني، هذا الموسم هو الأول ولا أطمح فيه بالكثير، ربما لقب محلي أو التأهل للأبطال سيكون كافياً لإخراس الأفواه المتعطشة للانقضاض على فريسة، وفي الموسم الثاني لن يمنعني أحد من إنتزاع لقب الدوري.

ابتسم جوارديولا:

-حسناً يبدو أنك لم تزدد تواضعاً منذ آخر مرة رأيتك فيها.

ضحك مورينيو، ثم نظر لرفيقه:

-جرب أن تأخذ الأمور بروية قليلاً، لا داعي للقتال على كل الجبهات من أجل كل شيء، ولا أن تطبق ما ترغب فيه في موسمك الأول، إهدأ، ادرس الأجواء ثم انتدب الأسماء التي ستخدم رؤيتك أو ارسم الرؤية التي تناسب أوضاعك.

لم يستطع جوارديولا أن يكتم ضحكته قائلاً:

-يالهي أنت حقاً تسديني النصائح؟

ضحك مورينيو بدوره:

-حسناً يبدو أن هذه الكؤوس قد فعلت شيئاً ما برأسي هذه الليلة، لكني لا أرغب حقاً برؤيتك تستسلم بسهولة، هذه إنجلترا يا عزيزي.

ثم صمت قليلاً قبل أن يضيف وهو يشدد على مخارج حروفه : وكونتي حتماً ليس أفضل منا.

لفظ عبارته الأخيرة بحقد واضح لم يحاول حتى اخفائه، وشاركه جوارديولا حنقه بالتنهيدة الطويلة التي خرجت من صدره، وعاد لإرتشاف كأسه بصمت وهو يفكر بغريمه الإيطالي.

لطالما ظن أن البرتغالي الجالس إلى جواره سيكون مصدر قلقه الأول، وإذ به يجد نفسه ورفيقه متخلفان في الدوري وراء الآخرين، وهذا الإيطالي الذي ظن أنه سيصارع للبقاء قرب القمة ها هو يتصدر الترتيب بفارق شاسع.

تمتم وكأنه يتحدث مع نفسه:

-تباً كم هي غريبة، لقد كنت أسحق كل هذه الأندية عندما كنت مدرباً لبرشلونة، والآن الجميع أصبح خبيراً ويتفوق على بسلم الترتيب. صمت هنيهة قبل أن يضيف ساخراً : الجميع باستثنائك أنت بالطبع.

تبادل معه مورينيو الضحك، قبل أن يقول:

-أجل أنا خلفك الآن لكن سنرى في نهاية الموسم أين سيكون كل منا.

ابتسم جوارديولا وعاد للتمتمة:

-يبدو أنني لن أجد مواساتي هذا الموسم سوى في أوروبا.

هتف مورينيو بإنفعال:

-فلتذهب أوروبا إلى الجحيم! إن المتعة هنا في هذا الدوري وفي التربع على الصدارة الأسبوع تلو الآخر! صدقني أُفَضل أن أغيب عن منافسات أوروبا بكل سعادة في سبيل أن أحطم أنوف الجميع وأنتزع لقب الدوري تحت أعينهم!

تأمله جوارديولا في صمت وهو يفكر، قد يكون هذا الرجل محقاً، إن القتال هنا بالفعل أصعب عشرات المرات من قتاله رفقة أنديتهم السابقة في دوري الأبطال. وضع كأسه جانباً وهم بدفع حسابه قبل أن يقول:

-حسناً يا صديقي، من الغريب سماع نفسي وأنا أقول هذا: ولكني سررت بتواجدك معي الليلة.

لوح له مورينيو بيده، وراقبه وهو يخرج من المكان بهدوء. جلس وحيداً بضع الوقت وهو يتذكر أيام عداواته الشهيرة مع ذلك الرجل، وعادت به الذاكرة أكثر إلى الوراء عندما كانا متجاورين في صفوف برشلونة، لطالما رآه غريباً بعض الشيء لكن عبقرياً. شعر بشيء من الراحة لرؤيته وهو على هذه الحال، من المريح رؤية نفسه متفوقاً على غريمه الذكي الذي طالما قارنوا نجاحه الخاص معه. ابتسم لنفسه وهو يفكر أنه على الأقل وعلى العكس من رفيقه استطاع تحقيق النجاح في الدوريات الكبرى الثلاثة. أعطته هذه الفكرة المزيد من النشوة التي أدارت رأسه، ثم نهض من مكانه، دفع حسابه وغادر المكان ممتلئاً بالرضى والسرور.

السابق
ريال مدريد مازال المرشح الأول للفوز بالليجا
التالي
يايا توريه رفض أموال الصين من أجل السيتي