كثيراً ما تمر من أمام صيدلية فترى رسماً لثعبان يلتف حول كأس، أو من أمام مشفى فترى أيضاً رسماً لثعبانين يلتفان حول عصا، ولربما نظرت إلى وصفة طبية لتجد في بدايتها حرفي Rx، أما إذا مررت من أمام محكمة وجدت ميزاناً، فما قصة هذه الشعارات وما الرابط بينها وبين مهنتي الطب والصيدلة؟!
شعار مهنة الطب
هناك شعاران متعارف عليهما لمهنة الطب، أحدهما ثعبانان يلتفان حول عصا مجنحة والآخر ثعبان واحد يلتف حول عصا غير مجنحة، فما قصة كل منهما؟
يمثل الثعبانان الملتفان حول عصا مجنحة صولجان هيرمس أو caduceus، وحسب الأسطورة الإغريقية فهيرمس Hermes ذاك هو رسول بين الإله والبشر (لذلك نجد له جناحين ممثلين بأجنحة العصا)، وهو المرشد للعالم السفلي، بالإضافة إلى كونه راعي وحامي المسافرين في طريق سفرهم، وآنذاك كان الأطباء يمشون على الأقدام طويلاً ليصلوا لبيوت المرضى، فهو إذن حامي الأطباء.
وحسب الأسطورة فقد أعطاه أبولو Apollo (إله الشفاء) العصا وفي رواية أخرى أعطاه إياها زوس Zeus (ملك الآلهة)، ويقال أنه كان هناك شريطان يلتفان حول العصا بدل الثعبانين، لكن يوماً ما فصل هيرمس نزاعاً بين ثعبانين باستخدام هذه العصا فتجمعا حولها بتناغم وبقيا هناك.
أما الشعار الآخر فهو ثعبان واحد يلتف حول عصا غير مجنحة، وهي عصا أسكليبيوس Asclepius، ابن الإله أبولو وأميرة البشر كورونيس Coronis، وحسب الأسطورة الإغريقية أيضاً فقد كان أسكليبيوس قادراً على إحياء الموتى، ويقال أنه لذلك السبب قتله زيوس كونه يدمر النظام الطبيعي، وفي رواية أخرى فقد قتله لأنه أخذ مالاً لقاء ما يفعله.
هذه كلها أساطير، لكن يا ترى هل هنالك تفسير منطقي يقبله العقل يربط هذه الشعارات فعلياً بمهنتي الطب والصيدلة بعيداً عن القصص؟! لنفصل هذه الشعارات إذاً:
الثعبان
قد يرمز وجود الثعبان إلى ما هو معروف من التأثيرات المميتة أحياناً لعضته وفي الوقت ذاته ما لسمه من فوائد طبية عديدة، فهو إذاً داء ودواء في الوقت ذاته.
ولو تأملنا التاريخ لوجدنا أن الثعبان وسمه قد حفزا العقل والخيال البشري منذ القدم، إذ ليس هناك من حيوان أكثر قداسةً ولا إهمالاً منه، وليس من حيوان أحب ولا أكره منه للبشر، وكل ذلك ينبع من سمه واستخداماته القديمة في السحر والشعوذة والطب، فالثعبان كان على مدى العصور رمزاً للتناقضات، كان رمزاً للحب والصحة والمرض والطب والصيدلة والخلود والموت وحتى الحكمة.
العصا
أحد التفاسير تقترح أن يكون وجود العصا في شعار مهنتي الطب والصيدلة نابعاً من علاج تقليدي لطفيلي الدودة الممسودة أو Dracunculus medinensis أو ما يسمى دودة غينيا، والتي تسبب بثرات في أي مكان تتواجد فيه في جسم الإنسان، ويعبر اسم هذه البثرات باللغة اللاتينية عن مدى ألمها “مصيبة بتنانين صغيرة”.
ولإزالة هذه الدودة يصنع الطبيب شقاً في طريقها في الجلد فتُخرج رأسها منه، ثم يأخذ عصا صغيرة وببطء يلف الدودة حولها حتى تزول البثرة كلها.
ومع أن العدوى اليوم بهذه الدودة قليلة جداً إلا أن العلاج لا يزال نفسه، ولذلك قد يكون الشعار جاء من هذا العلاج ثم تطور عبر القرون ليصبح ثعباناً بدل الدودة.
إذاً فأي الشعارين نستخدم!
يقول عالم التاريخ والتر ج. فريدلاندر Walter J. Friedlander في كتابه “صولجان الطب الذهبي: تاريخ شعار صولجان هيرمس في الطب” ”The Golden Wand of Medicine: A History of the Caduceus Symbol in Medicine” أنه وجد أنه غالباً ما تستخدم المنظمات المحترفة مهنياً عصا أسكليبيوس، بينما تستخدم المنظمات التجارية صولجان هيرمس كونه له تأثير بصري أكبر.
شعار مهنة الصيدلة
هناك شعاران أيضاً لمهنة الصيدلة، أحدهما كأس وحوله ثعبان، والآخر فيه هاون ومدقة.
يمثل الكأس والثعبان “وعاء هيجيا” “bowl of hygeia”، وهي الآلهة اليونانية بنت أسكليبيوس، وتعني هيجيا باليونانية “الكمال”، حيث أن هدف الدواء تحقيق الكمال للجسم البشري، وتظهر هيجيا في التماثيل حاملةً لوعاء وثعبان يشرب من الوعاء.
وبعيداً عن الأساطير، قيل إنه قد يكون هذا الشعار معبراً عن الجرعة الدوائية، أو قد يكون رمزاً يجمع السم والدواء في آن معاً.
أما الشعار الآخر فيرمز إلى الأداتين (الهاون والمدقة) اللتين تستخدمان في الصناعة الصيدلانية اليدوية منذ القدم.
ونلاحظ غالباً وجود الحرفين Rx على الهاون، حيث يرمز الحرف R إلى كلمة “recipe” اللاتينية وتعني “خذ” فمثلاً “Rx حبتي أسبرين” تعني “خذ حبتي أسبرين”، وهذان الحرفان يكتبان غالباً في بداية الوصفة الطبية.
شعار مهنة الحقوق
امرأة معصوبة العينين تحمل في يدٍ ميزاناً وفي اليد الأخرى سيفاً.
لنتحدث أولاً عن الأسطورة وراء ذلك.
تقول الأسطورة المصرية إن هذه الفتاة هي الإلهة ماعت Maart إلهة الحق والعدل في مصر القديمة، وهي ابنة إله الشمس رع وزوجة الإله ثوث Thoth قاضي الآلهة أو إله الحكمة والمعرفة، ويرمز إلى اسمها بريشة النعامة، ومن هنا جاء المثل: “على رأسه ريشة” أي هل هو إله العدل والحق صاحب العظمة!!
وفي يوم الحساب عند المصريين القدماء حسب موسوعة لاروس Larousse، وبعد أن يجتاز الميت الطريق المرعب بين مملكتي الأحياء والأموات ويصبح في قاعة العدالة التي يجلس أوزيس في نهايتها، تكون الإلهة ماعت في وسط القاعة بجانب ميزان هائل مستعدة لوزن قلب هذا الميت في كفة ووضع ريشة النعامة في كفة الميزان الأخرى وبالإضافة إلى اعتراف الميت بأنه طاهر يتم الحكم عليه.
هذا عند المصريين القدماء، أما عند بقية اليونانيين فنجد الإلهة ديكي Dike إلهة العدالة، وإيرين Irene إلهة السلام، ويونوميا إلهة النظام والقانون وهن بنات كبير الآلهة زيوس Zeus.
ومرةً أخرى بعيداً عن الأساطير، يفسَّر هذا الشعار بالتالي:
كون المرأة معصوبة العينين: لأن العدالة يجب أن تتحقق دون أي خلط للمشاعر أو الأحكام المسبقة.
الميزان: هو طريقة منطقية للحكم، حيث أن الكثير من الوزن (الدليل والإثبات) في إحدى كفتي الميزان سيؤدي إلى إمالته إما للبراءة أو للذنب.
السيف: يشير إلى سلطة القانون في إحقاق الحق.