في غرفتين من منزل تشارلز ولويز أوبراين المتواضع في مدينة توسون بولاية أريزونا الأميركية، يرقد أكثر من مليون حشرة، وهي مجموعة تُقدَّر قيمتها بـ10 ملايين دولار، في قبورٍ من الزجاج والرفوف منزلية الصنع. وهي تنحدر من كل قارةٍ وزاويةٍ في العالم، وجُمِعت على مدار أكثر من 6 عقود، وهي قصة حشرة بدأت كقصة حب.
هذا الأسبوع، أعلن الزوجان براين، وكلاهما في العقد الثامن من حياتهما، أنَّهما سيتبرعان بمجموعتهما، وهي واحدة من أكبر المقتنيات الخاصة في العالم، إلى جامعة ولاية أريزونا، وفق ما ذكرت صحيفة الغارديان.
وقال نيكو فرانز، عالِم الحشرات في جامعة ولاية أريزونا، إنَّ مجموعة عائلة أوبراين تُعَد بمثابة منجم ذهب للباحثين، وإنَّها ستُضاعِف المقتنيات الحالية للجامعة (من الحشرات). وتتراوح قيمة كل عينة من المجموعة من 5 إلى 300 دولار بحسب ندرتها، كما يقول فرانز، وربما تكون ألف حشرة من حشرات عائلة أوبراين “جديدة بالنسبة للعلم”. وستساعد المجموعة العلماء على إضافة فرع كبير إلى شجرة عائلة الحشرات، وستكون مصدراً للعلماء الذين يدرسون الضوابط الطبيعية للبيئة.
وعيَّن فرانز طلاباً يبحثون عن عملٍ بدوامٍ جزئي، كما كانت عائلة أوبراين قبل نصف قرن، من أجل المساعدة في تصنيف الحشرات.
اللقاء الأول
وقال تشارلز مُتذكِّراً كيف التقى بلويز، 89 عاماً، في جامعة أريزونا في أواخر الخمسينيات: “جَمعت الحشرات بيننا”.
وكانت لويز تعمل كيميائية في هذه الفترة بدوام عملٍ جزئي في قسم السموم بالكلية، حينما قرّرت أن تحضر دورةً دراسية في علم الحشرات. ومن هنا وقعت في حب الحشرات وتشارلز، الذي كان أستاذاً مساعداً.
وقالت: “إنَّها مخلوقات رائعة. ألن تحب أن تطير؟ ألن تحب أن تسبح تحت الماء لمدة 3 أيام؟ ناهيك عن أن تمتلك القدرة على اللدغ. لدي جارٌ سأودُّ لو ألدغه”.
ونشأ تشارلز فقيراً، وألحق نفسه، من خلال الكلية، بزمالةٍ بـ100 دولار في الشهر، مع وظيفة بدوامٍ جزئي تتضمَّن رعاية مستعمرات الصراصير المُستخدَمة في البحث.
وقال تشارلز: “كان عليّ أن أُطعِمهم، وأُنظِّف الأقفاص، وأن أمنحهم بسكويت الكلاب والأطعمة المختلفة الخاصة بهم. لم يكن لدي الكثير من المال. وبعد ذلك حصلت على عملٍ يتضمَّن إطعام الحشرات الماصّة، وحشرات بَق الفراش، وحشرات بَق التقبيل، ولم أُطعِمهم باستخدام جسدي، لكن كان علي أن أكون حذِراً حيالهم”.
ويتذكَّر تشارلز الصراصير بحُبّ، فيقول: “أُطعِمهم وهم يساعدونني على الأكل”، لكنَّه كان يكنُّ حُبّاً أقل للبعوض.
وتتذكَّر لويز عقد الخمسينيات باعتباره عصر “تحرُّر المرأة”.
كانت تطارده من الزواج
ففي الصف، كانت تتباسط في معاملة تشارلز، الذي شعر بالإحراج تجاه أي مظهر من مظاهر التفضيل لها. وأخيراً، غادر من أجل الحصول على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، وإن كان قد عدَّد مزايا الجامعة الجديدة للويز قبل الرحيل. وقد رغبت لويز في الحصول على درجة الدكتوراه الخاصة بها.
وقالت: “لم أرغب في التوقُّف. وكنتُ أيضاً أطارد تشارلز طوال الوقت. لقد عملتُ من أجل زواجي بِجدٍّ أكبر مما عملتُ من أجل درجة الدكتوراه”.
وفي الكلية، نشأت لويز على حب الفلقورينات، وهي الحشرات المشهورة بألوانها، وتصاميمها الغريبة المُموَّهة في كثيرٍ من الأحيان. أمَّا تشارلز فقد فضَّل السُوس، وهي الخنافس الصغيرة المعروفة بكونها آفات حشرية قوية، والتي تمتلك الكثير منها ذيولاً مُميَّزةً شبيهة بأنوف الثدييات.
وقال: “إنَّهم يخدعونني، وهم أقوياء. أنا سعيدٌ للغاية بالسوس. وإلّا ما كنتُ لأحصل على مليون حشرةٍ منهم”.
وبعد التخرُّج، شغلا سلسلةً من الوظائف في الجامعات، ودرسوا المكافحة البيولوجية، والعلاقات بين الحشرات، والنباتات، والبشر. وذهبا أيضاً لجمع الحشرات عبر 70 بلداً و7 قارات.
حياةً مفعمةً بالمغامرة
وبحث تشارلز في الجُزُر المتجمِّدة قبالة القارة القطبية المتجمدة (أنتاركتيكا) من أجل السُوس النادر، وقضى أشهراً في نيوزيلندا وجزر سليمان. وغرقت لويز في إحدى موجات المد العالي المفاجئة أثناء شقها لطريقها عبر شاطئ إحدى جُزُر خوان فرنانديز في تشيلي. وفي نيكاراغوا، قابلا رجلاً لم يسمع أحداً يتحدَّث اللغة الإنكليزية مطلقاً سوى الببغاوات، ولم يسمعها من بشري أبداً.
وفي فنزويلا، قالت لويز إنَّها كانت بالخارج في إحدى الليالي مع سيارتها تقوم بجمع الحشرات باستخدام ضوء مصباحٍ أسود وسفَّاطة، وهي عبارة جهاز للإمساك بالحشرات يحتوي على أنبوب، وشبكة، وإناء. وكان تشارلز في بِركةٍ يقوم بجمع الحشرات المائية حينما قفز رجلان من داخل الأدغال، الأمر الذي فاجأ لويز. وكانا قلقين من أنَّ الرجلين الأميركيين يرغبان في سرقة الكيامن، وهي التماسيح الأميركية الاستوائية الصغيرة. ونتيجة حالة عدم الثقة المتنامية، خرج تشارلز بعد ذلك من البِركة مُمسِكاً شبكة الحشرات بيديه، وأوضح أنَّهما كانا هناك من أجل جمع الحشرات.
وقالت لويز: “كانت حياةً مفعمةً بالمغامرة بالنسبة لتشارلي. ولقد كانت حياةً رائعة بالنسبة لي”.
ويقول تشارلز إن طريقتهم بسيطة. فيقول: “نستأجر سيارة ونخرج إلى الأدغال، أو الغابة، أو الصحراء، أو أيَّاً ما كان، حتى نجمع الحشرات. وهو ما نُطلِق عليه “اضرب واهرب”. نقود عبر الطريق السريع جنوباً من بعض البلدات ونرى مكاناً يبدو من المفيد لو أنَّنا توقَّفنا فيه، ثُمَّ نقف. وإذا كان مكاناً جيداً، نقضي عدة ساعات في جمع الحشرات هناك”.
نذهب إلى مكانٍ ما في الليل ونُخيِّم
وفي إحدى المرات، كما يقول تشارلز، قاد الزوجان السيارة إلى تالاهاسي في ولاية فلوريدا، حيث كان يقوم بالتدريس في ذلك الوقت، ثُمَّ قادا السيارة عائدين إلى بنما. وأضاف أنَّ الرحلة استغرقت 4.5 من الشهور، وأنَّهما قاما بالتوقُّف “500 أو 600 مرة”، في الغالب خلال الليل من أجل التقاط السوس الليلي.
وقال: “نذهب إلى مكانٍ ما في الليل ونُخيِّم، وننصب الأضواء، ونجمع الحشرات في الطرق، وفي الأشجار، وفي النباتات حتى الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً. وبعد ذلك ننام كيفما اتفق ونستيقظ في التاسعة صباحاً ونواصل العمل. إنَّه شيءٌ نحب أن نقوم به”.
وأصبح السن عائقاً في وجه الزوجين. إذ كسر تشارلز ظهره مرتين على مدار الأشهر الستة الأخيرة، ما جعل الزوجين يمكثان داخل المنزل أغلب الوقت. وقال: “بما أنَّنا لم نحظ بأطفال، أصبح هذا هو عمل حياتنا. إذ نعمل 7 أيام في الأسبوع، واعتدنا على العمل 14 ساعة، لكن تراجع معدل عملنا الآن إلى 10 ساعاتٍ يومياً”.
ويجلس الزوجان ويشاهدان التلفزيون في غرفة المعيشة، حيث يقومان بجمع وتصنيف العينات على مدى ساعات معاً، فيقومان بوضع ورقة تعريف اعتماداً على الهيكل الخارجي للحشرة، وتسميات مُفصَّلة للأنواع، والمجموعة، وما إلى ذلك. وقال تشارلز: “نحب ذلك كثيراً. حتى وإن صرتُ عجوزاً قليلاً للقيام بالعمل الميداني”.