بنك الدوحة.. خذوا ودائعكم وارحلوا!!

أسقط الحصار من حساباته وجمّد أرصدة اللعبة

رزمة إجراءات واحترازات تعطل مشروع دول الحصار وتحيله إلى المنفى

بنك الدوحة تجاوز رياضيات السياسة إلى فيزياء الاقتصاد البحت

الدوحة- بزنس كلاس

أدى الحصار الجائر على دولة قطر من قبل السعودية والإمارات العربية المتحدة بشكل رئيسي إلى تضرر قطاعات مختلفة من مفاصل الاقتصاد القطري كان ابرزها القطاع المصرفي والمالي لا سيما بعض بنوك قطر التي كانت تربطها علاقات مالية واقتصادية قوية مع شركاء في الدولتين المذكورتين. وكان بنك الدوحة، ثالث أكبر المصارف التقليدية القطرية والخامس بين جميع بنوكها، واحداً  من البنوك القطرية التي تعرضت للضرر نتيجة الحصار المفاجئ الذي اعتبر بمثابة الطعن في الظهر.

فقد سارعت السلطات في الرياض وأبوظبي إلى إلزام شركاتها وحتى مواطنيها بسحب ودائعهم من البنوك القطرية وضمن مهل زمنية ضيقة حتى تحدث فجوة مالية في الاقتصاد القطري من بوابة البنوك. وقد تعرض بنك الدوحة كما غيره من البنوك القطرية لهذه الضغوط، لكن المفاجأة كانت بأن بنك الدوحة كمثال على ما قام به القطاع المصرفي في قطر بشكل عام نجح إلى حد بعيد حتى الآن في تفادي أي أزمة كانت دول الحصار تخطط بعناية لإيقاعه بها.

لحل أي أزمة علينا أولاً أن نواجه الحقائق. والحقيقة هنا بأنه من الصحيح أن هناك ودائع كبيرة لمستثمرين وبنوك خليجية من السعودية والإمارات في بنك الدوحة.

رياضيات سياسية

غالباً ما تكون حسابات الخسارة هي ما يشغل جميع من يعمل ويتعامل مع هذا قطاع البنوك خصوصاً كمستثمر. ومن هذا المنطلق جاءت تصنيفات وتحليلات المؤسسة البحثية الدولية المتخصصة بعالم الاقتصاد والمال تحمل نظرة سلبية لمستقبل القطاع المصرفي في قطر على المدى القصير على أقل تقدير في ظل الأزمة الحالية ومن ضمنها بنك الدوحة، لكن الجميع يعلم أن وكالات التصنيف الائتماني تنشر توقعاتها بناء على الوضع السياسي لأي منطقة وفي إطار مواقف وأزمات ومع زوال تلك المواقف أو الأزمات تزول النظرة السلبية وبالتالي فهي لا تتوقع بناء على معطيات ثابتة فقط بل متغيرة، ما يجعل هامش الخطأ مرتفعا في التوقعات كلما هو الموقف الذي تبني عليه وكالة التصنيف توقعاتها تماماً كما يحدث الآن في الأزمة الخليجية.

وعليه فإن الاعتبارات التي تدعو لانخفاض الثقة بموثوقية القطاع المصرفي وبنوك قطر إنما تعود لأسباب سياسية بحتة خاصة بقرارات من أعلى المستويات صدرت من قبل سلطات دول الحصار لسحب الودائع من البنوك القطرية؛ وبالتالي فإن المستثمر الحصيف يمكن أن يرى بالأمر فرصة جيدة للاستثمار أكثر مما هي مناسبة للهرب. فبنوك قطر قامت فعلياً برفع معدل الفائدة أكثر من كل بنوك الخليج العربي وبالفعل نجحت حتى الآن باجتذاب رؤوس أموال بديلة للسعودية والإماراتية من سلطنة عُمان واستراليا في المرحلة الحالية.

تحرر وانعتاق

ولعب بنك الدوحة منذ بداية الأزمة دوراً نشيطاً جداً في العمل على الانعتاق من أن يكون رهينة رأس المال “السياسي” لدول الحصار. فقد قام البنك في الثامن من شهر أغسطس الماضي بإقامة ندوة في مدينة سيدني بأستراليا تحت عنوان «الأداء المستدام للاقتصاد القطري» في إطار توجه البنك نحو استثمارات وتمويل خارج منظومة دول الحصار من أجل النجاح بالحصول على تمويل كاف يعوض بشكل سريع ما سحبه ويمكن أن يسحبه عملاء وبنوك دول الحصار من البنك. في تلك الندوة أشار الدكتور ر. سيتارامان، الرئيس التنفيذي لبنك الدوحة لمسألة غاية في الأهمية أمام حشد من ممثلي المؤسسات والبنوك الرائدة في أسترالياً الذين أبدوا رغبة كبيرة في معرفة المزيد عن قطر والاستقصاء عن فرص الأعمال الممكنة مع بنك الدوحة، وهي أنه في شهر فبراير 2017، أصدرت قطر قانونًا جديدًا للتحكيم مستوحى من قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي. ويعد قانون التحكيم هذا خطوة إيجابية نحو دعم عملية التحكيم وعامل جذب أساسي خصوصاً للمستثمرين من خارج المنطقة. ويهدف القانون الذي يحكم عمل مركز قطر للمال إلى تبسيط الإجراءات للمستثمرين الأجانب.

رزمة استثمارات

كما شرح حينها بنك الدوحة عن الفوائد الكبيرة التي يمكن تحقيقها للمستثمر الأسترالي في راكة البنك بالمشروعات الكثيرة والفرص الاستثمارية في دول قطر لا سيما في القطاع الهيدروكربوني. هذا ويتأتى قرابة 30% من إجمالي الناتج المحلي الاسمي لدولة قطر من قطاع التعدين واستغلال المحاجر والذي يتمثل بصورة كبيرة من القطاع الهيدروكربوني، فيما تتأتى النسبة المتبقية من القطاع غير الهيدروكربوني. واضاف د. سيتارامان بأن حجم التبادل التجاري تجاوز بين قطر وأستراليا 1.6 مليار دولار أمريكي في عام 2016. وهناك علاقات ثنائية متنامية ين البلدين في مجال الطيران والتعليم والتجارة والدفاع.

وسلط الدكتور ر. سيتارامان الضوء على أهم الإصلاحات التي تشهدها قطر، حيث قال: «جاءت قطر في المركز الثامن عشر على مستوى العالم والمركز الثاني على مستوى المنطقة في تقرير التنافسية العالمي 2016-2017. كما سيعمل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص في قطر على زيادة الفرص والأعمال للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب.

في نفس الإطار وفي خطوة منطقية، أشارت مصادر مصرفية إن وحدة تابعة لبنك الدوحة تسعى لبيع بعض أصولها في الإمارات العربية المتحدة إلى بنوك محلية، لعدة أسباب أبرزها التضييق الذي تمارسه سلطات أبوظبي  ضد أي نشاط اقتصادي للبنوك القطرية أو اي بنوك أخرى تتعامل مع البنوك القطرية وبالتالي فإن بنك الدوحة عندما يتخلص من تلك الفروع الإماراتية يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد. أولاً استعاد جزء مهم من محفظته المالية كبديل عن الودائع التي تم سحبها من قبل السعودية والإمارات. وثانياً تخلص من خسائر كبيرة محتملة نتيجة عمليات الخنق المالي والإداري التي سوف تعترض اي نشاط لتلك الفروع من قبل سلطات أبوظبي وبنفس الوقت فضح الوجه الحقيقي للإمارات عبر الانسحاب من سوقها ما يؤدي لتقليص الثقة الدولية بالسلطات الإماراتية باعتبار أنها لا تفصل بشكل مهني بين الموقف السياسي والإجراء الاقتصادي.

بالمقابل تابع بنك الدوحة العمل على خط فتح محادثات مع ممولين محتملين من خارج المنطقة بنفس الوقت الذي يعمل فيه على بيع جزء من حزمة استمثاراته بالإمارات في سياق طبيعي لأي مؤسسة مالية تعرضت لهزة عنيفة نتيجة تحول مفاجئ في موقف ما. وأوضح خبراء ماليون في هذا الإطار أن تصريح الرئيس التنفيذي لبنك الدوحة، عن محادثات يجريها البنك مع مقرضين دوليين وهي “محادثات طبيعية”. تلك المصادر أضافت أن “تخفيض التصنيف الائتماني لوكالات التقييم العالمية مثل فيتش وموديز وستاندرد آند بورز لا يتعلق بالأساسيات الاقتصادية، وإنما بالنظرة المستقبلية التي تعتمد كليا على مدى وجود اضطرابات جيوسياسية أم لا”، مؤكدة أن هذه الوكالات تعتبر مقاطعة بعض الدول المجاورة، “انكشافا على هذه المخاطر”، وبمجرد زوال السبب تنتفي العلة، أي أنه “بمجرد انتهاء  المقاطعة ستعود التصنيفات إلى مستوياتها السابقة”.

لكن كل هذا لا يعني بأن بنك الدوحة لن يتحمل أعباء إضافية نتيجة الأزمة. إذ ان عليه تحمل مزيد من التكلفة للحصول على تمويل لأن المقرضين أو المستثمرين مدركون جيداً للوضع الاستثنائي الذي يمر به بنك في هذه الفترة ولا بد أن يسعوا لاستغلال الأمر لتحقيق أكبر معدل فائدة لأنهم كما باقي المؤسسات الاقتصادية العالمية مدركون تماماً لأن هذه الضائقة التي يمر بها البنك ليست سوى مرحلة استثنائية وبأنه قادر على تخطيها بسهولة بفضل عدة عوامل مركبة لعل أبرزها وضعه المالي القوي جداً بشكل عام واستثماراته الناجحة إلى حد بعيد في الداخل القطري وخارج البلاد إضافة إلى شراكاته المهمة للغاية مع مؤسسات اقتصادية تعمل على مشاريع ضخمة وحيوية رابحة استراتيجياً في أكثر من منطقة بالعالم. وهذا بالطبع يعني أن بنك الدوحة كما عرف عنه مازال وسيبقى بيت الأقوياء.

حلول مبتكرة

إذا أصبح الدوحة الآن أمام مواجهة واقع جديد لاختبار قدرته ومرونته في التكيف مع المستجدات لاسيما الطارئة منها كالأزمة الخليجية. إذا يتوجب عليه الآن أن يعمل بنشاط وإبداع أكبر كي يخرج من الخانة “السلبية” إلى المستقرة ليعود مرة جديدة إلى دائرة النمو الإيجابي وذلك عبر عدة خيارات ربما يكون أهمها على الإطلاق التوجه نحو أسواق يكون أساس التعامل الثنائي معها على أساس المصلحة الاقتصادية والفائدة القصوى التي يمكن أن تتحقق للطرفين. وربما تكون خطوة توجه بنك الدوحة نحو الشرق واجتذاب رؤوس أموال استرالية “مغامرة” في هذه المرحلة عملية “جراحية” إسعافية سريعة للوضع غير المريح الذي يمر به إلا أنها خطوة استراتيجية مهمة لأنه يمد بذلك جسراً مالياً مع واحدة من أهم شركاء قطر الدوليين على الإطلاق وفيها جملة من الاستثمارات القطرية بالغة الأهمية ليس اقلها مشاريع شركة “حصاد” التي تؤمن من حقول ومواشي استراليا جزء كبيراً من احتياجات قطر في مجال الأمن الغذائي.

من جانب آخر، على بنك الدوحة، إضافة إلى ما قام به حتى الآن، أن يقدم حلولا مالية مبتكرة لجذب استثمارات ورؤوس أموال إقليمية مهمة مثل رؤوس الأموال الكويتية والعُمانية والعراقية والإيرانية وحتى التركية ليعوض بها الأموال السعودة والإماراتية، وذلك بأن يطرح حلول مصرفية لمؤسسات ومستثمري هذه الدول تكون مقنعة بالنسبة لهم للذهاب إلى الاستثمار بالبنوك القطرية وعبرها بدلاً من التوجه إلى سواها من خلال معطيات كثيرة ليس أقلها رفع معدل الفائدة وتقديم تسهيلات ائتمانية قوية.

قبل توجيهات مصرف قطر المركزي للبنوك بضرورة عدم انتظار مساعدة منه لمعالجة تداعيات النزوح المحتمل لكامل ودائع السعودية والإمارات، كان بنك الدوحة بالفعل قد خرج برؤية حل يمكن أن تكون مقدمة للانعتاق نهائياً من الارتباط بمؤسسات مالية سعودية وإماراتية والعلاقة معها التي ستبقى، حتى لو انتهت الأزمة، رهينة لقرار صناع السياسة في الرياض وأبوظبي. ولكن لماذا لا يتوجه مثلا بنك دوحة إلى السوق الإيرانية والعراقية التي تبدو فرصة كبيرة يتحقق فيها فائدة مضاعفة للطرفين فكلاهما لديه نفس الخصم ولو بنسبة متفاوتة وما تبحث عنه السوق الإيرانية والعراقية موجود لدى بنك الدوحة من واجهة اقتصادية نظيفة موثوقة عالمياً، فيما البنك يستثمر في سوقين من أهم السواق الإقليمية الصاعدة بالمنطقة، إيران سوق جد خصبة بعد سنوات طويلة من العقوبات الاقتصادية والحصار، والعراق كذلك بعد أن تخلص من العنف والإرهاب وعلى وشك دخول فترة الانتعاش الاقتصادي وإطلاق ورشة إعادة الإعمار.

بدائل متكاملة

بنك الدوجة يعتبر أحد أهم الأمثلة الناجحة بامتياز بين بنوك قطر. لقد استطاع البنك حتى الآن أن يؤمن بدائل وافية عن رأس المال السعودي – الإماراتي سواء عبر عقود واتفاقيات تم توقيعها فعلاً مع عدد من الممولين والمستثمرين الأستراليين أو العقود المحتملة وهي كثيرة ليقول للمحاصرين نيابة عن كل بنوك قطر “خذوا ودائعكم وارحلوا”. إن إدارة البنك تقوم بجهود استثنائية بالفعل في ظل الظرف الاستثنائي الذي تعيشه المنطقة برمتها على وقع الأزمة الخليجية، لكن ما ميز عمل ونشاط بنك الدوحة على امتداد الفترة الماضية هو مسارعته لتفعيل “الخطة باء” والعمل فوراً على إيجاد بدائل تمويل حتى قبل سحب أي وديعة من البنك وهنا السر في قوة وحكمة النظام المالي القطري برمته، العمل دوماً وفق خطط مسبقة ووضع أسوأ السيناريوهات في الخطط المستقبلية والتجهيز على هذا الأساس بحيث يتم تفعيل خطة الطوارئ فور وقوع اي خلل. إلا أن هذا لا يعني الاستسلام للراحة والاكتفاء بما تم بذله، إذ أن أمام البنك مسيرة طويل من الجهود المتلاحقة ربما تستغرق منه العمل بنفس الهمة الحالية لفترة عام في القادم من الأيام، ربما، للعودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل صبيحة الخامس من يونيو / جزيران الماضي.

 

السابق
قطر تشق طرقاً جديدة في اقتصاد المعرفة
التالي
” الخطوط القطرية” تلقي قنبلة الأرباح على المقاطعة الجوية