الشكّ وكثرة التساؤل… إنذار لإصابتكم بمرض نفسي!

 

«سميرة» إمراة في العقد الرابع من العمر تحبس نفسها في غرفة مظلمة بعد أن تسدل الستائر وتحكم إغلاق النوافد خوفاً من أن تراها المخابرات التي تراقبها دائماً، ربما لامتلاكها صوَراً ومعلومات عن عصابات تتبادل الاسلحة والمخدرات ليلاً قرب مكان سكنها. وكأنّ مصيبتها لا تكفيها بحسب قولها، خصوصاً أنّ زوجها قد خانها مع صديقتها المقرّبة على سريرها الزوجي، واضافةً الى كلّ ذلك لا تجد أيَّ عمل لأنّ الكلّ يحسدونها ويخافون من قدراتها. فما هي تفاصيل حالة سميرة، وما هو التشخيص الطبّي لحالتها؟لا تستقبلك هذه المرأة إلّا وفي يدها بخاخ مخدّر، فالشكّ والارتياب لا يفارقانها، امّا اذا نظرتَ الى الصور التي التقطتها عن العصابات فلا يمكن أن ترى سوى سيارات مركونة وخالية من الاشخاص.

كثيرة هي الأمراض العقليّة والحالات النفسيّة التي نصادفها في المجتمع، والتي يعاني منها قسمٌ لا يُستهان به من الناس، والوعي في هذه الموضوعات لا يزال خجولاً في مجتمعنا الامر الذي يجعلنا نخطأ في تفسير واستيعاب تصرفات البعض.

قد نفسّر في الكثير من الاحيان شك البعض، بأنه تصرّف ذكي ويقظ، أو أنّ المبالغة في تفسير الامور والانتباه لتفاصيلها على أنها دقة ملاحظة، وقد نؤمن بالقدرات الخارقة لبعض الاشخاص ونصدّق أنّ الجميع يحاولون تقليده وسرقة أفكاره. إلّا أنّ هذه الحالات المبالغ فيها قد تدلّ على الإصابة بمرض «البارانويا».

وفي هذا الإطار كان لـ«الجمهورية» حديث خاص مع البروفيسور في العلوم النفسية والعقلية في جامعة «اوهايو» الأميركية، ومدير العيادات الخارجية للأطباء المقيمين في «Cleveland Clinic Akron» في «اوهايو» الدكتور عادل سليمان ابو زرعه الذي أكد أنّ «هذا المرض يظهر رأسه في أشكال متعددة، فتارةً يكون جزءاً من الشخصية وتارةً أخرى جزءاً من مرض ملازم كالفصام أو جنون العظمة والاضطهاد والارتياب أو ما شابه».

الشك في الجميع

لا يشك المريض عادةً بشخص واحد أو بفئة معيّنة من الناس، وإن حصل ذلك فيؤشّر إلى الإصابة بمرض آخر. ويقول أبو زرعه: «يكون الشخص كثير الشك لا يأتمن أحداً، ويظن أنّ الجميع متآمرون عليه ويحاولون الاستيلاء على ممتلكاته وأمواله، أو إفشال مخططاته واعماله والنيل منه، وبالتالي يكون شديد الحذر وكثير الشك والظن. وينظر الى الامور بشكل سلبي ليدعم شكوكه وظنونه ضد الجميع».

جنون عظمة القادة

مرّ عبر التاريخ كثير من الزعماء والأشخاص الذين عرفوا أنهم يعانون من «البارونيا»، كستالين وهتلر اللذين كانا يعتمدان على إعدام أيّ شخص يشكّان بأمره.

اضافةً الى ذلك، تكثر الشكوك حول اسماء بعض الزعماء الحاليين، مثل الذي يبدّل غرفة نومه 5 مرات في الليلة الواحدة، أو الذي يرفض الاكل والشرب إلّا إذا فعل أحد ذلك قبله، ويشرح ابو زرعه: «تترافق هذه العوارض المتمحورة حول الشك بما يُعرف بجنون العظمة، فيشعر الشخص أنه مهم جداً وبالتالي هو محطّ أنظار المخابرات مثلاً، بهدف سحب المعلومات التي يعرفها، او حتى يؤمن بوجود مخلوقات فضائية تراقبه وتحاول القضاء عليه وسرقة افكاره وامواله، ويعتبر أنّ هناك محاولات لاقتلاع افكاره من رأسه وإجباره على القيام بأعمال لا يريدها، أو هناك محاولات لزرع افكار معيّنة في راسه.

كما يكون على ثقة تامة أنه إنسان خارق ولديه رؤية للمستقبل، لانه رئيس دولة مثلاً، وهو على ثقة من محبة الآخرين له ولكنه على يقين ايضاً أنّ الذين يكرهونه ويريدون الانتقام منه هم كثر. وفي هذه الحالة يمكن القول إنّ المريض قطع شوطاً كبيراً في موضوع الأوهام حيث إنّ العلاج اصبح واضحاً لأنه يؤدّي الى الجريمة».

الجنس والخيانة

تكثر الهلوسات وتتركّز حول موضوع الجنس، فيعتقد المريض أنّ أحدهم كتب له كي لا يحب أو يُحَب أو أنّ هناك مَن يجنّد الشياطين ليخرّبوا عليه علاقاته، ويفصّل ابو زرعه هذا المحور، قائلاً: «في حال كان المريض على علاقة بشخص ما أو متزوجاً، يميل الى اتهام شريكه في العلاقة بالخيانة مع أشخاص هو يعيّنهم، ويكون كلّ هذا السيناريو من اختراعه وبعيداً من الحقيقة.

ولكن تكون قناعته قوية الى درجة ارتكابه جريمة قتل بناءً على الهلوسات غير الحقيقية. وتكثر هذه الحالات مع كبار السن لا سيما الذين يعانون من الخرف من نوع الزهايمر».

الشك حتّى بالعائلة!

يتمتع المصابون بالبارانويا بحياة طبيعية، فهم يعملون وينتجون ويؤسسون العائلات، ولكن تتغلغل مشكلاتهم المرضية الى عائلتهم، الامر الذي يتعبهم ويتعب مَن حولهم، وبحسب ابو زرعه: «هم لا يأتمنون او يثقون بأحد، ويقومون بجميع اعمالهم بأنفسهم دون الاعتماد على أحد.

اضافةً الى ذلك، ترى المريض يطرح الكثير من الاسئلة ويتسائل كثيراً عن معنى كلّ شيء ولماذا قال فلان هذه الجملة ولماذا نظر اليّ بهذه الطريقة، ولماذا تكلّم او لم يفعل ولماذا سلّم او لم يسلّم، فهو يخلق معاني غير موجودة لتصرّفات الغير، ما يساعده على إنماء شكوكه الوهمية».

المجتمع يجعلك مريضاً «بارونياً»

الى ذلك، تؤثر الظروف المعيشية والنفسية في المجتمع على تصرّفات الفرد، فيظهر عند نسبة معيّنة من الشعب نوع من «البارانويا». وفي هذا السياق، يوضح أبو زرعه أنّ «في فترة الحروب مثلاً ترتفع نسب البارانويا فتميل غالبية الشعب الى الشعور بالشكّ، وتنعدم ثقته بالآخرين، ويتجه الى اعتبار كلّ الاشخاص أعداءً. أمّا في حالات السلم فتتراجع هذه النسبة.

كذلك في المجتمعات التي يسودها الفقر والبطالة تزيد نسب الشك ويعتبر الأفراد أنّ نظرية المؤامرة العامة موجودة، وبالتالي يصيب البارانويا المجتمع ككلّ ولا يقتصر على عدد من الأفراد.

الى جانب هذه الظروف نرى في المجتمعات العربية خوفاً زائداً وارتياباً ظاهراً من المخابرات خصوصاً أنه لطالما شهد العرب توقيفات عشوائية واعتقالات تعسّفية، وحالات تعذيب وفساد. وكلما انفتح المجتمع وزادت ثقة الشعب بتركيبة الدولة والحوكمة قلّت نسبة الإرتياب.

وهنا تجدر الاشارة، الى أنّ هذه الظروف تزيد ظهور نسبة العوارض المرضية من نوع البارونيا، انما هناك اشخاص هم في الأساس مصابون بالهلوسة والتوهّم بغض النظر عن المشكلات الاجتماعية التي تزيد من حدة المرض، وبالتالي وجوب اللجوء الى العلاج، كي لا تقود العوارض المرضية الى الجريمة او القتل او الانتحار او الاثنين معاً».

العزلة للوقائية من الحياة!

تختلف نسب الشك والارتياب والشعور بالعظمة بين شخص وآخر، وكلّما قلّت هذه العوارض كانت حياة الشخص طبيعية والعكس صحيح، ويشرح ابو زرعه أنّ «المصاب بالبارانويا الحادة يلتزم غرفته ويقفل الابواب والنوافذ على نفسه ويمنع حتى النور من دخول غرفته، ويرفض رؤية أحد أو التكلّم معه، ويمتنع عن الاكل والشرب ظنّاً منه أنّ هناك مَن يسمّم له الأكل، كما يمتنع عن الاستحمام والتقيّد بالنظافة، لأنه يختار الحياة في غرفة منعزلة خوفاً من كلّ تفاصيل الحياة ومَن فيها».

أكبر مشكلة تواجه العلاج!

الى ذلك، البارانويا مرض عضوي وبالتالي العلاج النفسي مهم جدّاً تماماً كالعلاج الدوائي، ولكن كيف يمكن للمريض أن يثق بالطبيب وأن يتقبّل العلاج؟

يجيب ابو زرعه قائلاً: «هؤلاء الاشخاص يمكن معالجتهم بالطريقة السلوكية المعرفية ويستفيدون من عيار صغير من الأدوية المضادة للهلوسة، وينتفعون ويتجاوبون مع العلاج في حال اقتنعوا وآمنوا بالطبيب المعالج، ما يشكل التحدّي الأكبر للطبيب من ناحية إقناع المريض أنه يحاول مساعدته، لا السيطرة على عقله وأمواله.

وتوجد حديثاً علاجات مهمة وناجحة بإمكانها اعادة الانسان الى ظروفه الحياتية الطبيعية من خلال معالجة لا تتعدّى الاسابيع الاربعة. أمّا إذا كان المرض مزمناً فعندها نحن بحاجة لعلاج طويل الامد لتفادي انتكاسة المريض».

السابق
يوفنتوس يواصل تحقيق أرقام مميزة على ملعبه
التالي
التوقيت المثالي لتناول الوجبات الغذائية