شهد اليوم الثاني للأزمة التي اندلعت بين السعودية وكندا إثر الرد السعودي “الناري” والمتسرع حسب وصف كثير من المراقبين على تقرير اعتيادي لوزارة الخارجية الكندية من أجل الإفراج وتوضيح شروط اعتقال الرياض لكثير من النشاط الحقوقيين في السعودية. وأشار مراقبون مهتمون بالشأن السعودي أن الرياض تمارس سياسة الهروب للأمام من أزماتها المتلاحقة والكبيرة التي تورط نفسها بها نتيجة اتخاذ قرارات غير مدروسة وبشكل متسرع في إطار سياسة “الحزم” التي يتبناها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عوضاً عن سياسة “النفس الطويل” التي سادت العلاقات السعودية مع العالم على امتداد تاريخ المملكة منذ قيامها في ثلاثينيات القرن الماضي.
السعودية التي افتتحت هذا الشكل غير المألوف لسياسة الدول في التعاطي مع أي ملف، باتت تسارع لاتخاذ خطوات تصعيد خطيرة في كافة الملفات التي تتعامل معها، ما أدى بالمملكة لأن تجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع العالم ومع شعبها في نفس الوقت بعد أن تولت فتح المعارك مع الجميع دون التمكن من الوصول إلى نصر في اي معركة أو حتى القدرة على وقف أي منها مثل التغييرات الداخلية التي تستهدف لب المفاهيم الاجتماعية والدينية السعودية وتقلبها رأساً على عقب ما منح آل سعود كثير من أهداء الداخل إضافة إلى المتشددين دينياً في كل الاتجاهات سواء الوهابية او سواها. كما يجد المراقبون في حرب اليمن دليلاً آخر واضحاً على عجز السعودية على حتى ليس النصر بل وقف هذا النزيف الذي يكلف الخزينة السعودية 5 مليارات ريال يومياً .. والكثير من الملفات التي تحول السعودية إلى لاعب بلا حجم في المنطقة وتفقد اقتصادها كثير من الموارد مع ارتفاع منسوب الغضب الشعبي من حالة “التفقير” التي تقودها الحكومة السعودية للاقتصاد والمجتمع السعودي.
وفي الأزمة الجديدة التي تهرب من خلالها السعودية من مواجهة استحقاقات وإخفاقات داخلية وإقليمية ليس اقلها فشل الرياض المريع في مقاربة عملية صحيحة لملف العلاقات مع دولة قطر وتبديد جهود وأموال السعودية على حرب “عالمية” ضد دولة شقيقة بمستوى قطر، قفزت الرياض نحو مواجهة أوسع مع إيران لتضيف أخيراً كندا على قائمة أعداءها وتفتح باب جهنم المواجهة مع دول الغرب جميعاً من باب حقوق الإنسان وكأنها ترى الرمال المتحركة أمامها فتذهب مندفعة إليها معتقدة أن السرعة و”الحزم” كفيلان بدخولها حقل الرمال المتحركة الخروج منه دون الغرق فيه.
بدء الهجوم الكندي
فقد تواصلت ردة فعل وسائل الإعلام الكندية والغربية عموماً حول قرار السعودية تجميد العلاقات البينية وذهبت لاعتبار التعدي على حقوق الإنسان تهديدا للنظام الدولي الذي ساعدت كندا على بنائه وهو أمر غير مقبول ولا يمكنها التنازل عنه مقابل مصالحها التجارية.
وأشارت وسائل الإعلام الكندية إلى هشاشة الخطاب الإصلاحي السعودي وعدم احترامه للتعهدات الدولية وتناولت الصحف الكندية مصير الطلاب السعوديين وتقييمها للسعودية كوجهة للاستثمار الخارجي والعلاقات التجارية المشتركة .
حساسية سعودية
اعتبر كيفن كارمايكل في تقرير نشرته “فاينانشيال بوست” أن السعودية أصبحت أكثر حساسية تجاه التوبيخ الذي يأتيها من الخارج، حيث إن ردة فعلها تجاه تغريدة السفارة الكندية في الرياض بشأن اعتقال الناشطين، كانت مروعة بطردها السفير الكندي وتجميد “كل الأعمال التجارية الجديدة” مع كندا.
وأضاف أن موقف السعودية بمثابة التذكير بأن السياسة تمثل الآن أكبر التهديدات التي تواجه الاقتصاد العالمي. وأول شيء يجب أن تفعله شركة تنمية الصادرات الكندية هو تعديل تقييمها للسعودية كوجهة للاستثمار بإضافة التأمين على الخسائر المحتملة الناجمة عن قرارات السعودية التعسفية.
وأوضح كارمايكل أنه كان على الحكومة الكندية أن تتوقع مثل ردة الفعل من القيادة الجديدة في السعودية التي تخوض حربا على اليمن وتفرض حصارا على قطر، واختارت خوض معارك مع السويد وألمانيا عندما شككتا في التزام السعودية بحقوق الإنسان لذا كان على الحكومة الكندية أن تعلم أن السلطات السعودية سترد بطريقة عنيفة.
واعتبر كارمايكل أن التهديد للنظام الدولي الذي ساعدت كندا على بنائه غير مقبول، حيث إن أحد الأسباب التي تجعل الديمقراطيات تعاني من المشاكل هو أن الكثير من قادتها يضعون مصالحهم القومية في المقدمة على حساب المبادئ التي يدعون أنهم يدافعون عنها. وتساءل كارمايكل: إذا لم يتمكن بلد مثل كندا من التعبير عن رأيه بشأن معاملة الناشطين في مجال حقوق الإنسان والمساواة فما هي الفائدة التي نحن بصدد العمل من أجلها؟.
من جهتها، قالت صحيفة “لو دفوار” الكندية إن السعودية أعلنت نقل 7000 طالب يستفيدون من منحة حكومية للدراسة في كندا، وذلك في لعبة استعراض العضلات، وفي تصريح للصحيفة قال فنسنت كامبل ألير المسؤول عن الاتصال في جامعة “McGill” لدينا327 طالبًا سعوديًا يدرسون خلال العام الدراسي 2017-2018.
وأضاف: “إننا لا نعرف حتى الآن العدد الدقيق للطلاب الذين قاموا بالتسجيل للدراسة في العام الدراسي المقبل أو تأثير التدابير التي اعلنتها السعودية على دراسة الطلاب”. أما جامعة كونكورديا، التي تضم حوالي 60 طالبًا سعوديًا وقعت أيضًا في لبس حول مصير هؤلاء الطلاب. حيث قالت المتحدثة باسمها ماري جو بار “في هذه المرحلة، ننتظر إيضاحات من الحكومة حول ما يعنيه هذا بالنسبة لهؤلاء الطلاب والطلاب القادمين”.
مصير العقود
وقال تقرير “فاينانشيال بوست” إن التصعيد المفاجئ للضغط الدبلوماسي والاقتصادي يمكن أن يكون إشارة إلى مرحلة بين السعودية والبلدان الغربية بشأن قضية حقوق الإنسان. وعلى الرغم من طرد السفير الكندي، تواصل السفارة الكندية في الرياض عملها اليومي، بما في ذلك الخدمات القنصلية. أما بخصوص العقود المبرمة بين البلدين فلم يتم الإفصاح عن أي معلومات حولها، حيث أعلنت شركة جنرال دايناميكس لاند سيستمز، التي وقعت عقدًا بقيمة 15 مليار دولار مع السعودية في عام 2014 لتصدير مركباتها المدرعة الخفيفة إلى السعودية، أنها لا تريد التعليق على الوضع.
كما يعتقد كايل ماتيوس، المدير الرئيسي لمعهد كونكورديا الجامعي لدراسات الإبادة الجماعية وحقوق الإنسان في مونتريال أن الحكومة الكندية فوجئت برد فعل السعودية العنيفة واضاف: “اتخذت أوتاوا مواقف قوية بشأن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأزمة الروهينجا في ميانمار، ولكن أيا من هذه الدول لم يرد بهذا العنف وبين أن هذه ليست أول مواجهة للسعودية مع دولة غربية حول قضية حقوق الإنسان الشائكة. حيث يتذكر ماتيوس أنه في عام 2015 استدعت السعودية سفيرها من السويد وألغت عقدًا عسكريًا بعد أن انتقدت الحكومة السويدية معاملة رائف بدوي.
أما جينفيف بول المدير التنفيذي المؤقت لمنظمة العفو الدولية بكندا فقد تساءل: “هل هذا التصعيد يعقد الأمور لرائد بدوي وأخته سمر؟ ليس بالضرورة.. عندما نلقي الضوء على حالات المدافعين عن حقوق الإنسان المسجونين، يصبح شكلاً من أشكال الحماية لهم”. وأضاف “عدوانية السعودية تبين لنا أنهم مصممون على الرد بالترهيب والتهديد بدلاً من القيام بإصلاحات حقيقية في البلاد”، وطالب جينفيف بول الدول الغربية بالانضمام إلى كندا للتنديد بصوت عال وواضح بالانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية.
وقف الطيران
وتحدثت إذاعة كندا في ربورتاج، عن وقف رحلات الطيران من الجانب السعودي إلى تورنتو، واشارت إلى أن وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند طالب السعودية بـ “إيضاحات”. ووفقا لتوماس جونو، الأستاذ في كلية الدراسات العليا والدولية والشؤون الدولية في جامعة أوتاوا المتخصص في الشرق الأوسط، فإن المبادلات الاقتصادية بين كندا والسعودية تبلغ 4 مليارات دولار فقط سنوياً ليست هامة جدا لكلا البلدين.
ونقلت الإذاعة الكندية عن عضو البرلمان هيلين لافرديير: “كنا سعداء لرؤية الحكومة الليبرالية أخيراً تتحدث عن حقوق الإنسان في السعودية، وهي القضية الذي تحدث عنها الحزب الديمقراطي الوطني منذ سنوات..
وأضافت “رد السعودية غير مقبول على الإطلاق.. حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتفاوض.. كندا يجب أن تعلق مبيعات الأسلحة للسعودية”، كما تحدثت الإذاعة عن المشاكل التي تعرض لها الطلبة السعوديون الذي يدرسون في كندا وقد تحدث محمد حوبي نائب شبكة الطلبة العرب في جامعة “McGill” عن القلق الذي يعاني منه عدد من الطلبة السعوديون بعد قرار السعودية وضبابية مستقبلهم الدراسي.
وقال فيري كيرتشوف، الدبلوماسي الكندي السابق والأستاذ في كلية الدراسات العليا والدولية في جامعة أوتاوا في مقابلة مع راديو كندا “أعتقد بصدق أن هناك رغبة من جانب السيدة فريلاند لإحداث فرق” قضية رائف بدوي “أصبحت قضية مشهورة، ولا تستطيع الحكومة الكندية ألا تتحدث عن ذلك” ويعتقد كيرتشوف أيضا أن أوتاوا تسعى بشكل متزايد إلى “تعزيز عملها في حماية حقوق الإنسان” .
وأضاف: في نهاية المطاف، أعتقد أن الكنديين سيكونون سعداء برؤية حكومتهم تدافع أساسًا عن حقوق الإنسان في بلد لا يحترمها على الإطلاق مشيرا إلى مشاكل في الوضع الداخلي السعودي، فضلا عن الحرب التي تقودها السعودية مع الحلفاء الإقليميين في اليمن. وعلقت جوست هيلترمان، من مجموعة الأزمات الدولية، بقولها: “السعودية تطلق النار على قدمها”. “إذا كنت ترغب في فتح بلدك للعالم، فإنك لا تبدأ بطرد السفراء وتجميد التجارة مع دول مثل كندا”..
وأضافت: ومع ذلك، يشعر القادة السعوديون بأنهم يواجهون خياراً مستحيلاً: إذا كان الانفتاح على العالم يعني قبول التغيير، فإنهم يريدون فرض الإصلاحات والتحكم فيها بعناية، لأنهم يخافون من كل شيء بشكل خطير. التغيير من القاعدة الشعبية، على سبيل المثال من خلال نشطاء نسويين.. لكن هذا يضعهم في مصاعب أمام شركائهم الغربيين”.
إلى أين يريد ابن سلمان أن يذهب بالسعودية، هذا هو السؤال الذي يقض مضجع كل السعوديين وجميع ابناء الخليج الذين تهمهم السعودية وأهلها.. الخيار المستحيل الذي يسعى له بن سلمان في جملة القرارات المتناقضة داخلياً وخارجياً يضع بلاده على حافة الانفجار.. لكن السؤال بات اليوم بعد كل هذه الخطايا السياسية والاقتصادية التي ارتكبها، من أين سيأتي الانفجار أولاً.. من الداخل أم من الخارج؟!