الدوحة- لندن .. علاقات اصطفائية ومكاسب بالاتجاهين..

عبور الأسلاك الاقتصادية الشائكة مهمة مزدوجة الأهداف

تعهدات قطرية تغطي ظهر بريطانيا المكشوف

فشل المراهنة على الشريك السعودي يغير المسار البريطاني

بزنس كلاس – سليم حسن

تمتلك كل من قطر والمملكة المتحدة فرصة ذهبية تتمثل في تعزيز بيئة الاستثمار وتوسيع المحافظ الاستثمارية الكبيرة أصلاً بين الطرفين لأسباب كثيرة لعل أبرزها على الإطلاق سياسي في ظاهره لكنه اقتصادي تماماً في جوهره.

ورغم أن الحقيبة الاستثمارية للدوحة في بريطانيا كبيرة ومتنوعة حيث تبلغ 30 مليار جنيه إسترليني موجودة فعلياً وتعمل مع تعهد قطري برفعها بنحو 5 مليارات جنيه إضافية حتى 2020 إلا أن التعاون الاقتصادي لاسيما لجهة الاستثمار القطري في المملكة المتحدة يبشر بانفتاح كبير على مكاسب محتملة كثيرة في المستقبل.

مواقف وخيارات

وجدت كل من لندن والدوحة نفسها أمام خيارات سياسية واقتصادية لا يمكن وصفها بالسهلة هذا العام 2017. الأولى لأنها اختارت بينما الثانية لأنها اضطرت لذلك، لكنها وجدتها فرصة مناسبة تماماً للانطلاق بقوة نحو تحقيق الذات بعيداً عن الارتباط بكثير من الأمور الشائكة التي سنأتي على ذكرها لاحقا.

طلاق لندن وأوروبا

في عام 1973 أصبحت بريطانيا عضواً  في الاتحاد الأوروبي  وأهم دولة بين الدول الأعضاء البالغ عددهم 28 دولة، لكن منذ فوز رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بانتخابات 2013، وهو يعد بالتفاوض على ‏شروط عضوية بريطانيا في الاتحاد أو الخروج منه.

واختارت بريطانيا أن تنسلخ عن الاتحاد والأوروبي وأن تنعتق من نير الالتزام بإملاءات سياسية واقتصادية أوروبية تحملها في أحيان كثيرة أكثر من طاقتها وتلزمها أحياناً أخرى بتحمل خسائر لا تطيقها، لذلك جاء الاستفتاء الشعبي الذي ذهب إليه رئيس الوزراء السابق جيمس كاميرون ليؤكد الرغبة البريطانية بالطلاق ليتفق الطرفان بروكسل ولندن على “مخالعة اقتصادية رضائية” يصفي فيها كل طرف حسابه للآخر قبل الخروج النهائي.

موقف محرج

وهنا وجدت بريطانيا نفسها، صحيح قد انعتقت من نير الاتحاد، إلا أنها وجدت نفسها ستخسر حجم تجارة معه يقدر بـ 510 مليار دولار وهو رقم ضخم ستكون بحاجة ماسة للبحث عن بديل له. صحيح أن هذا الرقم سينخفض بشكل مؤثر لكنه لن يختفي كلياً. ومن جانب آخر سيمنى الاقتصاد البريطاني بخسائر أخرى، إذا أنه سيسجل نمواً بوتيرة أكثر بطأً في أعقاب فقدانه المزايا التجارية مع الشركاء الأوروبيين، وهذا ما أكدت دراسة خاصة كشفت أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكلفها خسائر تقدر بنحو 224 مليار جنيه إسترليني.

إذاً اقتصاديًا، سيخسر البريطانيون خاصة في الشركات الكبرى التابعة للاتحاد الأوروبي فرص عمل قدرت بالملايين، وكما ذكرت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية فالقطاعات التي ستكون الأكثر تضررا في بريطانيا من فقدان الصلة مع السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، هي المواد الكيميائية والخدمات المالية والسيارات والهندسة الميكانيكية، فعلي سبيل المثال، سيواجه منتجو السيارات الكثير من المشكلات؛ لأن الاستثمارات الأجنبية تعتمد على افتراض أن بريطانيا جزء من السوق الأوروبية الموحدة.

سيناريوهات

قبل الاستفتاء الذي انتهى بالتصويت على خلع لندن لعباءة الاتحاد والذي جرى في يوم 23 يونيو/حزيران 2016 توقعت منظمة “برتلسمان ستيفتونج” البحثية الألمانية  ثلاثة سيناريوهات لعام 2030 في حال خروج بريطانيا من مظلة الاتحاد الأوروبي. حيث خلصت الدراسة إلى أن السيناريو الأفضل، أنه  في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في عام 2018 ، ستتمكن بريطانيا في أفضل الأحوال من الفوز بوضع مشابه لسويسرا واتفاقية تجارة مع شركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي. أما السيناريو الأسوأ، فهو أن بريطانيا ستفقد اتفاقيات التجارة الحرة، حيث ستبلغ الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد بين 0.6 % و 3 % وسيكلف هذا السيناريو الأسوأ اقتصاد المملكة المتحدة 224 مليار جنيه إسترليني حسب ما جاء في الدراسة.

البحث عن حل

كل ما سبق جعل رئيسة وزراء الحكومة البريطانية الحالية تسرع إلى زيارة أكبر شريك تجاري لها في الخليج، السعودية بحثاً عن حل “اقتصادي” شافي لمرض ما بعد الخروج، وبالفعل لاقت الترحيب اللازم وكلمات الدعم الطنانة لكنها لم تحصد سوى بضع مكاسب من الرياض التي احتفظت بما معها لزيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الشهيرة قبل نحو 3 اشهر.

على النقيض،  سارعت  قطر لدراسة الموقف البريطاني دون الحاجة لاستقبال ماي في الدوحة. وذهبت فوراً لاستغلال فرصة انكشاف لندن الاقتصادي على بروكسل فتعهدت قولا وفعلاً بضخ مزيد من الاستثمارات في الاقتصاد البريطاني الواعد رغم الجراح. وهذا ما  تمت ترجمته فعلاً إلى عمل خلال زيارة رئيس الوزراء القطري إلى لندن  للمشاركة بفعاليات المنتدى القطري البريطاني للأعمال والاستثمار خلال الفترة من 27– 29 مارس الماضي 2017 في المملكة المتحدة.

الآن بريطانيا في وضع لا تحسد عليه رغم قوة اقتصادها والتوقعات أن تبلغ نسبة نموه في 2017 بأكثر من 1.5% كما توقع الدكتور ر. سيتارامان الرئيس التنفيذي لبنك الدوحة الذي إلى نمو الاقتصاد البريطاني بنسبة 1.8 % في العام 2016 متوقعا استمرار النمو بوتيرة أبطئ وبلوغه 1.5 % في العام 2017. وإذا أخنا بعين الاعتبار أن الدوحة تستثمر سلفاً نحو 30 مليار جنيه إسترليني وسوف تضخ 5 مليارات أخرى بشكل استثمار مباشر في الاقتصاد البريطاني فهذا يعني تسديد جزء مهم من فاتورة الخروج البريطانية من الاتحاد الأوروبي بمكاسب ممتازة لمحفظة الاستثمار القطرية خصوصاً مع محافظ بنك انكلترا على معدل فائدة منخفض ما يتيح توظيف وعوائد أفضل للاستثمار بشكل عام في بريطانيا.

ما بين الدوحة ولندن

من جانب آخر،  لدى قطر محفظة كبيرة من الاستثمارات في المملكة المتحدة تشمل العديد من الاستثمارات مثل ناطحة شارد، والقرية الأولمبية، ومركز شل، وتحويل السفارة الأميركية في لندن في ميدان جروس فنور إلى فندق فاخر، وشراء الأسهم في بنك باركليز، ومتاجر سانسبيري وشراء أسهم في شركة خطوط الطيران البريطانية، بالإضافة إلى الاستحواذ على متاجر هاوردز. وقامت أيضا بشراء مجمع كناري وورف في العام 2015، كما وسعت من حجم استحواذ قطر من خلال الاستحواذ على الأسهم في «فندق سافوي» البريطاني، وبرج «اتش اس بي سي». وهيئة الاستثمار القطرية تعد المساهم الأكبر في سينسبيري. وفي العام 2012 قام الصندوق السيادي بشراء 20% من أسهم مطار هيثرو كما رفعت شركة الخطوط الجوية القطرية نسبتها في أسهم الخطوط الجوية البريطانية إلى 20% في العام 2016».

مصالح قطرية صرفة

كل ما سبق يجعل الدوحة صاحبة مصلحة بالمحافظة على قوة الاقتصاد البريطاني لأن قوته واحتفاظه بمعدل نمو جيد سوف يعني في نهاية المطاف النجاح لمحفظتها الاستثمارية الضخمة هناك وبالتالي تعزيز نموها الاقتصادي نفسه. إضافة إلى فتح نافذة مهمة ومن منطلق جديد في آلية التعامل دون قيود أوروبية أو خليجية على هذه العلاقة خصوصاً بعد اندلاع الأزمة الخليجية في 5 يونيو / حزيران المنصرم. فاتفاقيات التعاون الاقتصادية في الخليجية تلزم الأعضاء بعدم الإضرار بالشركاء الخليجيين في الاستثمارات الخارجية بشكل بديهي. لكن مع إعلان الحرب الاقتصادية والحصار الجائر ضد قطر، باتت الدوحة متحررة من التزاماتها الاقتصادية على أقل تقدير مع السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين لأن هذه كانت رغبتهم بالأصل ولأنه أرادوا بها الضرر بالدوحة.  لذلك فإن التوجه بقوة نحو السوق البريطانية ورفع نسبة الاستثمار القطرية هناك ستكون حتماً في مصلحة الدوحة. أولا للحفاظ على قوة وجودها في السوق الدولية من خلال البوابة البريطانية. ثانياً الخروج نهائياً من أي عقد اقتصادي ملزم بالنسبة لها ويكبح جماح استثماراتها الناجحة نتيجة التزامات خليجية، اقتصادية على الاقل، لم تجلب عليها سوى الضرر.

بلغة الأرقام، يبلغ حجم التجارة بين قطر وبريطانيا نحو 27 مليار دولار سنوياً. فيما سيبلغ حجم تمويل لندن لصادراتها إلى قطر وفق  وزير الدولة البريطاني للتجارة الدولية، ليام فوكس لدعم التجارة مع قطر ضعف ما كان عليه سابقاً ليصل إلى 4.5 مليارات جنيه إسترليني (5.7 مليارات دولار).

استثمارات قطر في بريطانيا

بينما تلخص قطر موقفها الاقتصادي من بريطانيا بعبارات رئيس الوزراء القطري عبد الله بن ناصر آل ثاني، إن بريطانيا كانت دائماً وجهة مفضلة للاستثمارات القطرية في المجالات المختلفة، خاصة في العقارات وستظل كذلك، موضحاً أن العاصمة البريطانية “لندن” هي الوجهة السياحية المفضلة لدولة قطر. وأشار بن ناصر أيضاً إلى أن قطر من أهم موردي الغاز المسال للمملكة المتحدة.

الجدير بالذكر أن حجم الاستثمارات القطرية القائمة حالياً في قطر يتوزع على الشكل التالي:

يعتبر صندوق الثروة السيادية القطري شريكا اساسيا ضمن مجموعة المستثمرين التي إشترت حصة 61% من شبكة أنابيب الغاز في بريطانيا التي كانت تمتلكها الشبكة الوطنية.

يمتلك صندوق الثروة السيادية القطري نسبة 13% في مجموعة “Tiffany & Co”، وقيمتها 1.4 مليار دولار.

استحوذ الصندوق السيادي القطري على 6% من البنك البريطاني “باركليز”.

استحوذ جهاز قطر للإستثمار على 3 من أشهر الفنادق العالمية في بريطانيا والولايات المتحدة، وهي فندق “غروفنر هاوس” في لندن، وفندق “بلازا” وفندق “دريم داون تاون” في نيويورك بقيمة إجمالية عند 772 مليون دولار.

اشترى “جهاز قطر للاستثمار”، بالتعاون مع “بروكفيلد بروبرتي بارتنرز”، شركة “سونغبيرد” العقارية البريطانية، التي تملك حي “كناري وارف” المالي في لندن، مقابل 3.9 مليارات دولار.

استحوذ صندوق “بيدكو” العالمي لاستثمارات الطاقة، التابع لشركة “المرقاب كابيتال” المملوكة لمستثمرين قطريين على 80% من أسهم شركة “هريتدج أويل” البريطانية مقابل 1.6 مليار دولار.

أعلنت هيئات قطرية سيادية استعدادها لتمويل 95% من كلفة بناء برج “شارد” الذي يطل على الضفة الجنوبية لنهر “التايمز” في لندن، والذي تبلغ كلفته 660 مليون دولار.

اشترت “قطر القابضة” 20% من شركة “بي إيه إيه” التي تدير عدداً من المطارات في بريطانيا، وعلى رأسها مطار “هيثرو”، مقابل أكثر من 1.2 مليار دولار.

مع محفظة استثمارية قطرية ضخمة في بريطانيا يمكن للفريقين أن يوسع آفاق العمل الاقتصادي سواء منفرداً أو على جبهة التعاون الثنائي بشكل يكون أفضل وصف له “علاج اقتصادي ناجع” لأزمة غير ضرورية سواء لجهة الأزمة الخليجية أو تلك مع بروكسل. إن تعزيز وإطلاق منصات جديدة للتعاون الاقتصادي بين الدوحة ولندن سوف يجعل البلدين أكثر قوة  ومرونة في التعامل مع أي استحقاق اقتصادي مسستقبلي في ظل حقيقة أن الاستثمار القطري في الاقتصاد البريطاني سيكون مفيداً بكلا الاتجاهين وليس في تفضيل مصلحة طرف على آخر أو تفويت فرص اقتصادية مهمة إرضاء لتحالف سياسي خليجي أو أوروبي.

كل ما سبق يأتي في سياق المكاسب المحتملة من إجادة اللعب بالاقتصاد للخروج بأفضل نتيجة ممكنة من وضع سياسي سيء. ويأتي أيضاً في إطار تقليص خسائر كان بمكن لها أن تكون فادحة لولا حقل خيارات التفضيل الواسع للدوحة ولندن معاً، لكن ان تتعاون مع شريك خرج من خسارة محتملة وهو يحبس أنفاسه خير من التعاون مع شريك “مرتاح” لأن شروط الأول ستكون حتماً أفضل فهو يحتاجك بقدر حاجتك له. وهذا هو الحال اليوم بين لندن والدوحة.

 

السابق
“كهرماء” توقع عقدين مع “فولتامب” العمانية لتوريد المحولات 
التالي
QNB والمصرف يتصدران القائمة 10 مصارف قطرية ضمن أكبر بنوك العالم