الإزدواجية التي يعيشها المجتمع اللبناني والاستنسابية التي يمارسها، ليست بأمرٍ جديد. أن يعترض المجتمع على أفعالٍ معيّنة تُمارَس في العلن، على الرغم من أنه يُمارسها في الخفاء، ليس أيضاً ممارسة مستجدّة. ولكن يجدر التوقف عند هذا الانفصام والظواهر الغريبة، الناتجة من عدم تناغم مجتمعي بين الأطراف المختلفة، إن من الناحية الطبقية أو العلمية أو الثقافية… أو الطائفية. هذا إلى جانب عدم الانسجام الذاتي بين معتقدات الفرد الذاتية وممارساته المادية. ومن الظواهر البارزة بشكلٍ يتطلّب تحليلاً نفسيّاً اجتماعيّاً، أنّ شعب بـ»إمو وأبو»، السباب والشتائم والكلمات النابية، مفردات أساسية في معجمه اللغوي اليومي. شعب يصبّح «ربّه» بالسباب، لكنّه يمتعض وينتفض ويعترض على مرور «مسبّة» صغيرة في فيلمٍ سينمائي لبناني!الشتائم والمشاهد الجنسية. عيب. القُبل والسباب. عيب. مشاهد الحب. عيب… حتى لو أنها تأتي في سياق النص، لا بل إنها ضرورية لمصداقية وواقعية ومنطقية النص والمشهد السينمائي، الذي ينقل مشهد الواقع اللبناني. ينقله بموضوعية وتجرّد، من دون استخدام مقصّ التشويه أو إبرة التجميل. إن لم ينقله يكون مشوِّهاً للواقع! فالتجميل ليس إلّا تشويه للحقيقة.
السينما مرآة للواقع
لم «نصدّق» أن قام بعض الكتاب والمخرجين بإدخال الواقع اللبناني إلى السينما «اللبنانية»، بعد أن أغدق المنتجون «المقرشون» الشاشات بأفلام سطحية بعيدة من الواقع ومن ظواهر المجتمع اللبناني، وشؤونه وهمومه وأطباعه وممارساته… وعِوض أن ندعم هذا النوع من الانتاج، نقرأ ونسمع انتقادات واتهامات تطاوله بتشويه صورة المجتمع أو صورة المرأة اللبنانية… مشهد صدر امرأة عارٍ لثوانٍ فقط ممكن أن يبيّن كلّ هذه المكبوتات! كلمة يا «أخو…» أو العضو الذكري بالعامية اللبنانية، كافية لإخراج كميّة مقزّزة من الجهل والجبن على حدٍّ سواء.
لماذا نقبل الشتائم ومشاهد «فاضحة» أكثر في الأفلام السينمائية الأجنبية وبالتحديد الأميركية، ولا نقبلها في الأفلام اللبنانية؟ لماذا نخجل أساساً ممّا هو طبيعي، ممّا هو جزء من أيّ انسان، وممّا هو حاجة طبيعية لأيّ إنسان، وإن لم تنوجد تكون الحالة شاذة وغير طبيعية!
إن كان الفيلم يروي قصة حب، وقصة إغواء أو إغراء فتاة لشاب، فكيف يُظهر المخرج ذلك؟ في الواقع كيف يعبّر كلّ من الرجل أو المرأة عن حبّه؟ كيف يترجمه؟ كما في الواقع، كذلك في السينما! هل مطلوبٌ أن يُصبح الإنسان ملاكاً مثلاً أو آلة مجرّدة من الأحاسيس على شاشة السينما؟
مَن ينتقد ذلك تحت حجّة خدش الحياء العام، عن أيّ حياء يتكلّم؟ مشهد قصير لعلاقة حبّ يجعل من الفيلم مُصنّفاً تلقائياً لمَن هم فوق سن الثامنة عشرة، وبالتالي هل إنّ هكذا مشهد لا تحمله أعين إنسان راشد؟ وإن كان لا يرغب بمشاهدة هكذا مشاهد، فله الخيار الحرّ. ولكن أن ينتقد، فهو ما ليس من حقّه. أن يعجبه الفيلم أم لا، موضوعٌ آخر. نقطة البحث هنا، الانزعاج من مشاهد الحبّ والجنس.
ظواهر غريبة
أمّا الشتائم، فظاهرة بحدّ ذاتها. خلافٌ صغير بين رجلٍ وزوجته، يؤدّي إلى تقيّؤ الرجل كلّ ما في أمعائه من «قرف» الشتائم. خلافٌ مروري بين شخصين، يحوّل معجم الحوار بين الاثنين تلقائياً إلى معجم «المسبات اللبنانية المأصّلة»…. اللبناني يمزح بلغة السباب، ويعبّر عن اشتياقه وحزنه وغضبه وفرحه ووجعه ويأسه وتعبه… بلغة السباب.
ولكنّ مشهد رجلٍ قاتل وقوّاد و«أزعر» في أحد الأفلام السينمائية، يظهر فيه يفرغ غضبه بأحد مرافقيه، ضرباً وركلاً و«سباباً»، فعيب! هل يصلّي هكذا شخص لمَن يضربه في الشارع اللبناني أو في صالة القمار أو في منزل دعارة؟!
إن كان ما تفعلونه عيباً، قوموا بالتغيير الذاتي، غيّروا ما أنتم تقومون به، وليس صورتكم المعكوسة عبر مرآة السينما. الصورة المعكوسة، هي صورة مجتمع مريض، ولا يمكن أن يبقى مريضاً وأن نطلب أن تتغيّر صورته في السينما!
المجتمع اللبناني يرفض مشاهد الجنس والشتائم في الأفلام السينمائية اللبنانية لأنه «يعيش حالة من التكاذب بينه وبين فكر المجتمعية الأخرى وحالة من الكذب على الذات»، كما يشرح الدكتور نبيل خوري، الاختصاصي في علم النفس العيادي والتوجيه العائلي والجنسي لـ«الجمهورية».
رفض عري المرأة وتقبّل عري الرجل!
رفض المشاهد الجنسية أو مشاهد العري، استنسابي أيضاً، ففي حين تعلو الأصوات المعترِضة على ظهور ثدي المرأة أو مؤخّرتها، لا يُشار أبداً إلى عري الرجل شبه الكامل في المشهد نفسه. فالأنثى غير الرجل بالمقاييس الاجتماعية، وأيّ عرض لجسد الأنثى يعطي مدلولات إباحية ويحرّك هوامات جنسية.
و«هذا خطأ تحليلي وخطأ على المستوى النفسي»، يقول الدكتور خوري، ويتابع: «لكنه خطأ شائع لأنّ المجتمع يعيش حالة معيّنة من الصراع مع ذاته، يخاف من مشاعره وأحاسيسه ويخشى أن يعبّر عنها بطريقة واضحة المعالم، يختبئ وراء مبادئ ومثل عليا، يتوقّع الاحتشام الواجب على المرأة ولا يتحدّث عن احتشام الرجل… مجتمع يجرّم زنا المرأة ولا يجرّم الرجل على فعل الزنا. مجتمع خبيث لا يعرف أين هي مكانته ولا يعرف كيف يدحض الأسباب الموجبة لتحرّكاته اللولبية».
ويشير خوري إلى أنّ «الخلطة بين السياق الغربي بتفكيرنا ولبسنا عند النساء والرجال، والانتماء إلى مجتمع شرقي محافظ بعض الشيء في عدد من مكنوناته، هذه الخلطة العجيبة الموجودة في المجتمع اللبناني تجعل الإنسان يعيش صراعاً مع ذاته».