ربما لاحظتِ أن واحدة من أحدث صيحات الموضة لهذا الموسم تتجلى في الملامح المستوحاة من أزياء البحّارة، الملابس المقلّمة، الياقات البيضاء العريضة التي تغطي الكتفين، القبعات المائلة ودرجات الألوان البحرية، من الأزرق السماوي، إلى الأزرق القوي و النيلي يرافقها الأبيض بنقائه الخلاب.
على خشبات العروض العالمية، حضرت هذه الملامح بقوة، و كانت لها الغلبة في تشكيلة Métiers d’art التي قدمتها دار Chanel في مدينة هامبورغ الألمانية، مسقط رأس المدير الإبداعي كارل لاغرفيلد، و المدينة التي يُعدّ النهر فيها، مصدر الحياة الأول ووسيلتها الرئيسية للتواصل مع العالم الخارجي..
في الواقع، تمتاز الملابس المستوحاة من أزياء البحارة بالكثير من الحنين، وبمشاعر متناقضة في الكثير من الأحيان، فهي توحي بالرحلات الطويلة في سفن تمخر عباب المحيط، ترمز إلى المغامرة و التجارب المشوّقة التي لا تنتهي، كما تثير فينا الحنين و المشاعر الفيّاضة إلى تلك الأزمنة، يوم كانت السفن وسيلة التنقل الأبزر عبر المحيطات والقارات.. إنه حنين إلى الزمن الرومانسي وتلك الحقبة التي كانت فيها الرحلة الواحدة تمتد لأيام عدة، قبل أن يبدأ عصر السرعة وتفقد الأمور والأشياء معانيها وطعمها المميز..
أصول بدلة البحار في عالم الأزياء:بدأت بالظهور في نهاية القرن الثامن عشر في خزائن ملابس أطفال الأرستقراطيين الإنجليز. كما يرجع الفضل إلى الملكة فيكتوريا في شهرتها، حيث كان أطفالها يرتدون ملابس البحارة، مثل بحارة البحرية الملكية، وذلك تأكيداً لقوة أسطولها ومدى سيطرته عبر البحار. وبدأ هذا الاتجاه في الأزياء بالانتشار بين بلاط أوروبا وروسيا حتى الولايات المتحدة. وبتطور السياحة الساحلية في نهاية القرن التاسع عشر، انتقلت هذه الصيحة من خزانة الأطفال لتكون قطعة متميزة في خزانة ملابس النساء الأنيقات.
مجموعات غابرييل شانيل:في ربيع عام 1912، افتتحت غابرييل شانيل بوتيكاً في دوفيل، وهو منتجع ساحلي عصري يقع على ساحل النورماندي. وفي خريف نفس العام، عيّنت أول رئيسة مشغل خياطة للأزياء الراقية لتقدّم لعملائها مجموعة مختارة من الأزياء. وفي صيف عام 1913 في دوفيل، أعادت غابرييل شانيل ابتكار تصميم ملابس البحر بأسلوبها، مستوحية ذلك من بدلة البحارة. وقد برهن اختيارها للقماش عن جرأة حقيقية، فقد اختارت نسيج الجيرسي من الصوف والحرير، وكان يُستخدم في السابق فقط للملابس الرياضية والملابس الداخلية للرجال. ولمزيد من المرونة والراحة، لم تضِف أيّ بطانة. ولم يقتصر استلهامها من ملابس البحارة على الكنزة المميزة بياقة مربعة فقط، بل اعتمدت الخطوط أيضاً في تصاميمها. وفي عدد مجلة Women’s Wear Daily في 27 يونيو 1914، جرى تناول استخدام شانيل للجيرسي على النحو التالي: “تقدّم غابرييل شانيل بعض الكنزات المثيرة للغاية التي تتسم بميزات جديدة. إن المواد المستخدمة هي جيرسي صوف بألوان جذابة كالأزرق الفاتح والوردي والأحمر الطوبي والأصفر. كما استُخدم جيرسي مخطط، بعرض بوصة واحدة، باللون الأسود والأبيض أو الأزرق الداكن والأبيض. وتشبه هذه الكنزات في قصتها البلوزة البحرية ذات الياقة… ويُتوقع نجاح باهر لتلك الكنزات، فضلاً عن ذلك، تعد المخططة منها الأكثر إثارة للانتباه”.
الكنزة المخططة:بعد بضع سنوات، في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت غابرييل شانيل المولعة بالأجواء الساحلية في الريفييرا، بارتداء السراويل المنسدلة والكنزات المخططة أيضاً. كانت السراويل المنسدلة مستخدمة في الأصل بواسطة القوات البحرية (الطاقم فقط) في نهاية القرن الثامن عشر. وتظل هذه السراويل موجودة حتى الآن، تمسّكاً بالتقاليد أكثر منه لطابعها العملي. أما بالنسبة إلى الكنزة المخططة، فقد أصبحت جزءاً من ملابس البحارة في منتصف القرن التاسع عشر. وأصبح هناك أسلوب معيّن لارتدائها (يتم ارتداؤها تحت السترة المميزة بياقة مربعة) يعتمد على عدد وسمك الخطوط. ووفقاً للاعتقاد السائد، فإن الخطوط جعلت من السهل رصد البحّار إذا سقط في البحر. وعلى نحو تقليدي، سمحت الخطوط بتحقيق استخدام أكثر اقتصاداً لصبغة اللون النيلي التي كانت مكلفة للغاية.
لم يستغرق الأمر طويلاً لتشكل الكنزة المخططة قطعة في خزانات المدنيين. وقد صُنعت هذه القطعة من ملابس العمل من الجيرسي لسبب مهم؛ هو توفير الراحة التي كانت غابرييل شانيل مهووسة بها. وكانت تحمل هذه القطعة من الملابس الرجالية عدة دلالات. كانت رمزاً لتحرير المرأة عندما ارتدتها الكاتبة كوليت في عام 1894، كما اعتمدها كل من كان ضد الأعراف والنظام القائم، مثل بيكاسو. وبالنسبة لكوكتو، فقد استوحى منها تصوّراً للمثل الأعلى المذكر، بين البطل والفتى الشرير؛ إنها فكرة غامضة عن الرجولة التي أصبحت حلماً.
ما هي الدلالة التي ستعطى للكنزة المخططة التي ترتديها شانيل في لا بوزا، فيلتها في روكيوبرون، في ثلاثينيات القرن العشرين؟ هل كانت القطعة المثالية للاسترخاء التي لاقت نجاحاً في الريفييرا الفرنسية؟ هل جسّدت الشعور بالانتماء إلى دائرة الفنانين البوهيميين الذين أحاطوا بها، أم الشعور بالشباب الدائم بأسلوبها المواكب لكل العصور؟ هل كانت هذه الكنزة المخططة التعبير المثالي عن طمس الفروق بين المذكر والمؤنث، الذي برعت فيه شانيل؟ ربما كل ما سبق. ومهما كان الجواب، فهو يعكس الطابع الأنيق للأشخاص المتحررين الذين يتمتعون بالبساطة.
في مجموعات كارل لاغرفيلد:يعتبر كارل لاغرفيلد هذا الأسلوب من أهم ما ألهم تصاميم غابرييل شانيل، وهذا ما حفزه على الاستمرار في إعادة ابتكار رموز الكنزة المخططة منذ 1983. وقد برز ذلك بشكل إضافي في مجموعة Métiers d’art ميتييه دار باريس – هامبورغ 2018/2017. لقد درس كارل لاغرفيلد خزانة الملابس الكاملة للبحار: المعاطف بأزرار مزدوجة وخصائص زيّ البحار التي ساعدته على حماية نفسه من الطقس والقبّعات والحقائب. وأعيد تصميم البدلة، في شكلها الكلاسيكي مرة أخرى، ولكن زيّنتها هذه المرة ياقة بنمط البحار. كما تحوّلت الكنزة المخطّطة إلى ثوب مزيّن بخطوط من الريش. ويجمع بالتالي هذا التصميم بين الطابع البحري وموهبة الحرفيين في شانيل CHANEL.