حاول الإسكندر الكبير غزو مدينة ترميسوس التركية لكنّه فشل. واليوم، في وسع من يرغب بزيارة هذه المدينة الجاثمة مثل عش النسر المحصّن في أعالي جبال جنوب غرب تركيا، للتمتّع بآثارها المذهلة.
غير أنّ قلّة من الناس يُقدمون على ذلك.
تنتصب مدينة ترميسوس المهجورة التي كانت قوية ذات يوم، كجوهرة أثرية محفوظة بفضل عزلتها. إذ يقصدها عدد قليل من الأشخاص من المنتجعات الشاطئية في منطقة أنطاليا السياحية القريبة، كي يكتشفوا إحدى المدن القديمة الأكثر إثارة للإعجاب في تركيا.
بيد أنّ عوامل الزمن تركت آثارًا واضحة على أطلالها المتآكلة التي غزاها النبات.
ويقع فيها الزائر على أضرحة ضخمة، وخزانات كبيرة تحت الأرض، ومعابد ساكنة، وأسوار المدينة المهيبة، ويتنقل على مدرجات مسرح مذهل مماثل لمدينة ماتشو بيتشو، ينتصب على قمة تل يوفّر مناظر تمتد لأميال بكل الاتجاهات.
من السهل الوصول إلى تيرميسوس. فهي تبعد حوالي 45 دقيقة بالسيارة عن وسط مدينة أنطاليا المزدحم بحركة المرور وصولًا إلى أبواب منتزه Mount Güllük-Termessos الوطني، وهو ملاذ محمي للحياة البرية يحيط بالآثار.
يمشي الزوار مسافة 10 دقائق أخرى داخل التلال المكسوة بأشجار الصنوبر والغورق على امتداد طريق متعرج يرتفع حوالي 1000 متر فوق مستوى سطح البحر.
يبدو الطريق كأنّه موقف سيارات غير مثير للاهتمام مع مرحاض عام. لكن في الزمن الغابر كان بمثابة أغورا عملاقة، أو سوقًا للمدينة التي كانت في أوجها قبل 2000 عام، تعج بالتجار والمواطنين.
وهنا تبدأ مغامرة ترميسوس.
غزاة المقابر
في أحد أطراف أغورا، بقايا حجارة متناثرة لما كان ذات يوم شارعًا كبيرًا يؤدي تصطف على جانبيه مقابر أثرياء وزعماء ترميسوس.
توابيت قديمة منحوتة تحتوي على أدلة تشير إلى من رقد فيها ذات يوم، مثل الدروع والرماح للمحاربين. بعضها صغير، والبعض الآخر ضخم، ما يشي بمستويات الثروة أو القوة. بعضها غير مكتمل، وتشير قواعدها الضخمة إلى ما كان يمكن أن تكون عليه.
على مر القرون، اقتحمها المُغيرون، وحطموا جدرانها أو رفعوا أغطيتها رغم إغلاقها بمشابك معدنية. كما تسلّلت جذور الأشجار وزواحف اللبلاب عبر الأعمال الحجرية.
يقول أوندر أوغوز، مدرّس الفنون المقيم في أنطاليا والمرشد المعتمد الذي ينظّم جولات في ترميسوس المفتون بها منذ مجيئه إلى هنا كطالب في عام 1996: “برع اللصوص بأداء مهمتهم”.
يتضمّن الوصول إلى قلب المدينة القديمة المشي لمسافات طويلة على طول طريق مورق يكون وعرًا وشديد الانحدار في بعض الأماكن. على الزوّار أن يكونوا مجهّزين بأحذية قوية ويتوقعوا المشي لمسافات طويلة شاقة نوعًا ما على التضاريس الصعبة. أما في الصيف فيستحسن زيارتها باكراً قبل ارتفاع درجات الحرارة، إلى التزود بالماء.
وسرعان ما تلوح في الأفق أسوار المدينة السفلية ما يدلّ على مدى قوة الدفاع عن ترميسوس عندما بُنيت ربما في القرن الرابع أو الخامس قبل الميلاد، قبل وقت طويل من تميّز الرومان بالمهارات الهندسية.
كان شعب ترميسوس يُعرف باسم سوليمز، أحفاد اللوفيين، وهي حضارة قديمة انتشرت عبر ما يعرف الآن بتركيا، ولكن تم تجاهلها إلى حد كبير من قبل علماء الآثار حتى العقود القليلة الماضية. حتى يومنا هذا، لا يُعرف سوى القليل عن عائلة سوليمز، أو متى بنوا مدينتهم.
لكنّهم كانوا يعرفون بوضوح ما كانوا يفعلونه. يُظهر اختيارهم للموقع عبقرية في التفكير الاستراتيجي. لم تكن فقط على طريق تجاري رئيسي، ما مكّنها من تحقيق الثراء من خلال بيع السلع للأشخاص المتجهين من وإلى البحر الأبيض المتوسط، بل إن ارتفاعها ومناظرها الخلابة جعلت من السهل الدفاع عنها.
ولهذا السبب، عندما حاول الإسكندر الكبير غزوها حوالي عام 333 قبل الميلاد، ذكر اسم ترميسوس لأول مرة في كتب التاريخ. لم يتمكن على ما يبدو من غزو المدينة أو حصارها للاستسلام، رغم المحاولات المتعددة. ويُقال إنه أطلق على المدينة اسم “عش النسر”.
وفي وقت لاحق، حقق الرومان المزيد من النجاح في السيطرة على المدينة. وأوضح أوغوز، أن ليس من خلال القوة، ولكن من خلال وسائل أكثر خبثًا، مثل تقديم الحكم الذاتي تحت “الحماية” الرومانية. وخلص إلى أن “الرومان كانوا مثل المافيا”.
مدرسة فنون القتال
عند تسلّق أعلى التل، على طريق صخري تنتشر فيه نباتات المريمية البرية العطرة، تقع على مزيد من الأدلة على مدى تطور الحياة في ترميسوس. إلى اليسار، تقع على الآثار الرخامية لصالة الألعاب الرياضية بالمدينة، وهي عبارة عن حرم جامعي للجنود المتدربين، مكتمل بحمام وغرفة طعام.
لا تزال بعض أجزاء المبنى الرئيسي سليمة، مع وجود دلائل تشير إلى أن الأقواس الرائعة كانت تمر عبر جداره الأمامي. كان بالداخل طبقتين، بالإضافة إلى قبو تحت الأرض للتخزين. في الأمام توجد Palaestra، وهي المنطقة التي كان يمكن استخدامها للمصارعة، والتدريب القتالي، والتي تتناثر اليوم بقطع من بلاط سقف الطين في صالة الألعاب الرياضية.
وهي، بطبيعة الحال، مهجورة. يُعتقد أن ترميسوس قد دمرها زلزال لا يُعرف تاريخه الدقيق، لكن يحتمل أن يكون في القرن الرابع أو الخامس. ما تبقى ليس عمل إعادة بناء أثري. إنها الحالة الحقيقية التي ظل المبنى عليها طوال الـ1600 عام الماضية.
إلى ذلك، توفر أسوار المدينة العلوية إطلالات رائعة على الغابة في الأسفل، وتوفر نقطة مراقبة جيدة لأي شخص يحاول التسلل للغزو.
لكن ماذا عن الحضارة؟
توجد بقايا نظام صرف مياه مغطى. وبالنسبة لمدينة لديها مصادر مياه قليلة، فهي واحدة من أصولها الأكثر إثارة للإعجاب، خزانات ضخمة متعددة الغرف تحت الأرض منحوتة يدويا في الصخور الصلبة ومبطنة بالجص.
هذه الحاويات الكهفية، القادرة على استيعاب ما يصل إلى 1500 طن من الماء، كانت حيوية لبقاء المدينة التي كان لديها القليل من مصادر المياه الطبيعية، خصوصًا حين فرض الإسكندر الكبير الحصار. وهي اليوم مليئة بالأعمدة المكسورة وغيرها من الأنقاض، التي تركت عندما تم هجر المدينة. هناك تكهنات بأن نقص المياه قد يكون وراء قرار نقل المدينة أخيرًا إلى مكان آخر.
المحال التجارية الفاخرة
في مكان قريب، يوجد الجدار الخارجي المهيب للبوليوتريون أو بيت التجميع الذي كان يمكن أن يكون مقر السلطة في المدينة، وأغورا مركزية أخرى يعود تاريخها إلى العصر ما قبل الروماني، وأطلال شارع ذات أعمدة كان يضم في السابق المحال التجارية الأكثر تميزًا في المدينة.
وشرح أوغوز: “هذا هو شارع الشانزليزيه في ترميسوس”. وأوضح أنه مثل شارع التجزئة الباريسي الراقي، كان هذا المكان الذي ينفق فيه الأثرياء أموالهم. أجود أنواع زيوت الزيتون، والأقمشة، والسلع الجلدية، والسلع المستوردة من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط معروضة للبيع هنا.
عد التدافع الأخير على ألواح ضخمة من الرخام، ينفتح المنظر على مشهدية رائعة لمساحة كبيرة واقعة في أعلى نقطة من المدينة.
المكان مذهل، فهو محاط بالوديان الجبلية البعيدة على الجانبين. إن الانخفاض الهائل خلف الجدران العلوية للمسرح مذهلة. إنه تذكير بضرورة توخي الحذر عند استكشاف الآثار التي لم يتم تسييجها من أجل السلامة.
مع مساحة تتّسع لحوالي 4000 شخص، يواجه نصف دائرة المدرجات الحجرية أنقاض ما كان يمكن أن يكون مسرحًا يحتمل أن يكون شُيد قبل وصول الرومان، ولكن تم تحديثه لاحقًا على غرار الطراز الروماني.
يتمتع الموقع في تيرميسوس بأهمية خاصة، إذ يقع قبالة جبل كان مقدسًا لسكان المدينة.